كيف يتحوّل موت الفتيات إلى رقم بلا معنى؟ - جيهان أبو زيد - بوابة الشروق
الإثنين 7 يوليه 2025 1:27 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

كيف يتحوّل موت الفتيات إلى رقم بلا معنى؟

نشر فى : الأحد 6 يوليه 2025 - 6:20 م | آخر تحديث : الأحد 6 يوليه 2025 - 6:20 م

كن يضحكن فى الدقائق التى سبقت الواقعة، كانت إحداهن تصف للأخريات فستان خطوبتها، بينما شقيقتها التى كانت على الطرف الآخر تصف لهم حياتها بعدما تتخرج من الجامعة. تدركن جميعًا عمق الفقر الذى سقطن فيه جميعًا، لكن خيط الأمل لم يفارق أى منهن، واثقات فى أنهم يومًا سينتقلن إلى الناحية الأخرى. لكن الخيط انقطع وسالت دماء الصغيرات على طريق لا يرتوى من دمائهن. الحادثة التى أضاعت حياة 18 فتاة سبقها حادث مأساوى فى أبوغالب عام 2024، حين غرقت حافلة نقل 10 فتيات قاصرات أثناء عبورهن النهر للعمل فى مزارع التصدير.

حادثة أخرى فى وادى النطرون أسفرت عن وفاة طفلة عمرها 12 عامًا وإصابة أكثر من 17 سيدة أثناء توجههن للعمل فى الحقول، بينما شهدت المحلة الكبرى وفاة عاملة أثناء تشغيل ماكينة دراس جذبت خمارها وتسببت فى إصابة قاتلة. هذا إلى جانب تقرير لمركز الأرض يوثق 79 حالة وفاة و190 إصابة لعاملات وعمال زراعيين جرّاء حوادث الطرق أو ظروف العمل الخطرة، وهو ما يكشف عن نمط مستمر من النقل غير الآمن، وضعف الإجراءات الوقائية، وانعدام آليات الرقابة والمحاسبة. جميع هذه الحوادث، رغم تكرارها، تمر غالبًا بلا مساءلة، الأمر ليس بحادثة إذا، إنه الموت الذى يسكن تفاصيل حياتهن، فهن يعملن دون عقود رسمية، تُعاملن كماكينات إنتاج بلا حقوق.

●●●

يُعد القطاع الزراعى فى مصر من أكثر القطاعات استيعابًا للعمالة، حيث تشير بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2023 إلى أن العاملين فى الزراعة وصيد الأسماك يُشكّلون نحو 18.8% من إجمالى القوى العاملة، بما يُعادل أكثر من 5.4 مليون شخص. وتذهب تقديرات أخرى إلى أن عدد العاملين فى الزراعة بلغ 6.18 مليون فى الفترة من 2000 إلى 2022، أى ما يقارب 25.8% من إجمالى العمالة (المركز المصرى للفكر والدراسات، 2023).

ورغم أن النساء يُمثلن ما يصل إلى 45% من القوى العاملة الزراعية وفقًا لتقارير وزارة التخطيط والمعهد القومى للتنمية المستدامة، فإن واقعهن يشهد تضييقًا قانونيًا واجتماعيًا ممنهجًا؛ فـ99% منهن يعملن دون عقود رسمية أو حماية قانونية، وهو ما يجعلهن ضمن الاقتصاد غير الرسمى، معرضات لمخاطر جسيمة دون ضمانات. وفى صعيد مصر تحديدًا، تصل نسبة مشاركة النساء فى أعمال الحصاد إلى 94%، مقابل 67% فى الوجه البحرى، لا سيما فى المهام اليدوية كثيفة الجهد كإزالة الأعشاب أو رش المبيدات (شبكة سيادة: من أجل سيادة الشعوب على الغذاء والموارد2023). ومع ذلك، تقل أجورهن عن أجور الرجال بنسبة تصل إلى 40–50%، ويُحرم معظمهن من امتلاك الأرض؛ إذ لا تزيد نسبة النساء المالكات للأراضى الزراعية عن 5.2% حسب دراسة صقر النور (مجلة عمران، العدد 10). هذه الأرقام لا تعكس فقط حضورًا واسعًا للنساء فى الحقول، بل تُظهر التناقض الحاد بين مساهمتهن الحيوية فى الإنتاج الزراعى وبين تجاهلهن فى السياسات العامة والتشريعات العمالية، وكأن وجودهن يقتصر على الظل بينما تُنسب الفائدة للآخرين.

●●●

يشرح كتاب “كبار الملاك والفلاحين فى مصر 1837–1952 لرءوف عباس وعاصم الدسوقى، سياسات محمد على ومن بعده الاحتلال البريطانى التى أدت إلى تركيز ملكية الأراضى الزراعية فى يد قلة مستفيدة ومحمية بالسلطة، بينما حُرم الفلاحون من التملك، وبقوا خاضعين لنظام العمل غير الرسمى، والعقود الشفهية، وغياب الحماية القانونية.

منذ بدايات القرن التاسع عشر، خضعت البنية الزراعية فى مصر لتحولات عميقة بدأت بسياسات محمد على فى احتكار الأرض، وتكرّست لاحقًا بفعل الاحتلال البريطانى، الذى أعاد تشكيل الملكية الزراعية بما يخدم مصالح طبقة ضيقة من كبار الملاك، ويرسّخ تبعية الفلاحين. ففى هذا السياق، كما يُوضح كتاب “كبار الملاك والفلاحين فى مصر 1837-1952 (عباس والدسوقى، 2017)، تحوّل الفلاح إلى طرف هامشى لا يملك الأرض التى يزرعها، ولا يتمتع بالحماية القانونية أو التمثيل السياسى. عمل الفلاحون غالبًا كمستأجرين أو عمال موسميين، يتقاضون أجورًا زهيدة، ويتعرضون لسياسات ضريبية باهظة دون ضمان اجتماعى أو تعويضات عادلة، بينما توسّعت ممتلكات النخب الاقتصادية، التى ارتبطت بالسلطة المركزية، وتوارثت الأرض والنفوذ عبر الأجيال. وإذا كانت تلك السياسات وما تبعها قد حول الفلاح إلى عامل يومى بلا أرض ولا صوت، فهى قد جعلت من النساء «ظل العامل» الذى لا يُعترف بجهده، ولا يُحمى من المخاطر.

وهكذا، تأسّست بنية من اللا مساواة الهيكلية تراكمت عبر العقود، حيث يعانى الفلاح من الهشاشة الاقتصادية، بينما تُقصى المرأة الريفية حتى من تعريف «العامل الزراعى». هذا النموذج، الذى نشأ فى ظل السياسات الاستعمارية، ظل حيًا ومتجذرًا، وتجلياته المعاصرة أكثر من واضحة؛ فحوادث وفاة الفتيات العاملات بالزراعة، الناتجة عن النقل غير الآمن أو التعرض لمبيدات ضارة أو العمل فى ظروف قاسية، ليست مجرد أحداث عرضية، بل تعبير صارخ عن منظومة تجاهلت حقوقهن، وأسقطت مسئولية حمايتهن من حساباتها، سواء على مستوى التشريعات أو الممارسات المؤسسية.

فى قانون العمل الموحد رقم 12 لسنة 2003، تم استثناء العاملات فى «الزراعة البحتة» من مظلة الحماية القانونية، بما فى ذلك الإجازات والأجور والتأمين الصحى (شبكة سيادة، 2023). هذا الاستثناء لا يعكس فقط تهميشًا قانونيًا، بل يعمق هشاشة النساء فى مواجهة ظروف العمل الصعبة، حيث يعملن غالبًا فى مواسم الحصاد أو إزالة الأعشاب، مقابل أجر يومى متدنٍ، ومن دون أى عقود أو وسائل حماية من المخاطر الصحية أو الحوادث.

●●●

منذ مطلع الثمانينيات، بدأت مصر فى تطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية تحت إشراف مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولى، وهو ما انعكس بوضوح على القطاع الزراعى من خلال رفع الدعم عن مدخلات الإنتاج وتحرير العلاقة بين المالك والمستأجر. هذه السياسات، التى توسعت خلال عهد مبارك، لم تُعدّل الاقتصاد فحسب، بل أعادت رسم خريطة الريف المصرى بشكل عزّز التفاوت الاجتماعى والطبقى، وضاعف الهشاشة لدى الفلاحين، خاصة النساء منهم. فمع صدور قانون العلاقة الإيجارية عام 1992، فقد آلاف الفلاحين أراضيهم، وتحولوا من منتجين مستقلين إلى عمال مياومة فى شركات زراعية.

أما النساء الريفيات فكنّ الأشد تضررًا، إذ يعملن غالبًا بشكل موسمى أو يومى دون عقود أو حماية، بأجور زهيدة لا تكفل الحد الأدنى من الحياة الكريمة، فى ظل غياب تام عن برامج الحماية الصحية والاجتماعية.

ومع انهيار الجمعيات التعاونية وتقلص الدعم، زاد اعتماد النساء على مقاولى التشغيل الذين يستغلونهن فى ظروف غير إنسانية، بينما لا تعكس السياسات الزراعية الحديثة وجودهن، إذ تُصاغ خطط الاستثمار الزراعى والتحول الرقمى دون ذكر لمَن يعملن فى الحقول ويُطعمْن البلاد.

تتجلى هذه السياسات فى مشاهد مأساوية متكررة، مثل حادثة «فتيات العنب» بالمنوفية فى يونيو 2025، حين قُتلَت 18 فتاة تراوحت أعمارهن بين 14 و22 عامًا فى تصادم مروع أثناء توجههن للعمل بأجر يومى لا يتعدى الـ130 جنيهًا. هذه الحوادث، التى تشمل أيضًا غرق فتيات فى أبوغالب، وانقلاب حافلة فى وادى النطرون، وموت سيدة أثناء تشغيل ماكينة حصاد فى المحلة، ليست مجرد أحداث فردية، بل انعكاس لبنية تهميش متكاملة، حيث تُنقَل الفتيات فى وسائل غير آمنة، ويُحرمن من أدوات الوقاية، ويُهملن قانونيًا واجتماعيًا.

الغريب أن الخطاب الرسمى، كما جاء فى تصريحات بعض رجال الأعمال، يُلقى باللوم على السائق باعتباره مدمنًا مستهترًا، متجاهلًا السياق الكامل الذى تعمل فيه هؤلاء الفتيات؛ فلا توجد جهة تتحمل المسئولية الأخلاقية أو القانونية عن وفاتهن، ولا تمثيل سياسى أو نقابى يمكن أن يطالب بحقوقهن. هكذا يتحول موت الفتيات إلى حدث عابر فى نشرات الأخبار، وتتعامل الدولة والمجتمع معه كأمر معتاد، وكأن أرواحهن جزء من تكلفة الإنتاج لا أكثر. هذا التطبيع مع الموت الهامشى هو جوهر الأزمة، حين يُعامل العاملون فى الزراعة كـ«أنفار» بلا قيمة، تُنكر عليهم حقوقهم، ويُنسون عند الوفاة كما غُيّبوا فى الحياة.

 

جيهان أبو زيد باحثة بمركز جنيف للدراسات
التعليقات