لم يكن الهدف من الإبقاء على النظام الانتخابى الحالى، الذى يجمع بين «الفردى» و«القائمة المطلقة المغلقة»، هو ضمان تمثيل الفئات التى نص عليها الدستور، حسبما بررت الحكومة والأغلبية البرلمانية، بل كان المقصد الحقيقى هو الحفاظ على تركيبة مجلسى «النواب» و«الشيوخ» كما هى، بما يضمن استمرار الحال على ما هو عليه «برلمان لا يمارس صلاحياته الدستورية فى الرقابة على السلطة التنفيذية، وينحاز فى تشريعاته للحكومة على حساب الناس».
فى مايو الماضى، تقدم نواب من أحزاب «مستقبل وطن» و«الشعب الجمهورى» و«حماة الوطن»، ومعهم عدد من نواب «تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين»، بتعديلات تتعلق بإعادة ترسيم الدوائر الانتخابية.
لم تتطرق التعديلات إلى النظام الانتخابى، أى أنها أبقت على النظام «الفردى» و«القائمة المطلقة المغلقة» التى تهدر أصواتًا معتبرة للناخبين، وتحرم قوى سياسية من التمثيل، وتُقصى أحزابًا كاملة من المشهد النيابى.
لم تبحث أحزاب الموالاة التى اقترحت تعديلات قوانين الانتخابات عن صيغة تفتح الأفق أمام تنافس حزبى حقيقى أو تضع مسارًا لتطوير الحياة السياسية، كما دعا رئيس الجمهورية عند إطلاق الحوار الوطنى قبل ثلاث سنوات.
ما بحثوا عنه هو ما يضمن مصالحهم، ويُرضى عنهم الحكومة التى لا ترغب فى أى إزعاج، ولا تريد معارضة حقيقية تدرك حدود دورها الدستورى فى الرقابة والمساءلة والتشريع.
تمسكت الأغلبية البرلمانية بالمقترح الذى قدمه ممثلوها بجلسات الحوار الوطنى والذى يقضى بالإبقاء على النظام الحالى، وتجاهلت مقترحين آخرين تم رفعهما إلى رئيس الجمهورية، أحدهما يدعو إلى تطبيق القائمة النسبية بالكامل، فيما جمع الثانى بين الأنظمة الثلاثة (الفردى، والقائمة المغلقة، والقائمة النسبية) بنسبة ثلث المقاعد لكل منهم.
الإصرار على هذا النظام يعنى ببساطة مصادرة مقاعد البرلمان لصالح القادرين ماليًا وتنظيميًا على خوض معركة «الفردى»، سواء من رجال الأعمال أو عدد محدود من نجوم المعارضة البارزين، أو أولئك الذين تُمنح لهم مواقع مضمونة فى القوائم «المغلقة المطلقة» التى يجرى تشكيلها منذ انتخابات 2015 وفق عملية هندسية محسوبة غير قابلة لأى نسبة خطأ.
وفقا للقواعد الديمقراطية، لا يمكن إجراء انتخابات دون تعددية ومنافسة، حتى يتمكن المواطن من المفاضلة بين البرامج والرؤى، لكن فى بلادنا، يبدو أن التعددية ترف، والمنافسة خطر، والتنوع السياسى عبء على أى حكومة تأبى أن تخضع للمساءلة الشعبية.
قد تتفاهم المعارضة والموالاة تحت القبة على تشريعات بعينها، لكن لا يُعقل أن تتحالف مسبقًا فى معركة انتخابية تحت مظلة قائمة موحدة، مرة «فى حب مصر»، وثانية لـ«دعم مصر»، وثالثة «من أجل مصر»، لاسيما أن تلك الأحزاب لا يجمعها مشروع سياسى، ولا أيديولوجيا، فبعضها ينتمى إلى أقصى اليسار، وبعضها من أقصى اليمين، وبعضها لا يُعرف عنه هوية أو مذهب سياسى «يدق وتده عادة حيث ترسو السلطة»، أى سلطة.
الأسبوع الماضى، وبعد جلسات درامية، وافق مجلس النواب على قانون الإيجار القديم، رغم رفض مقترحات نواب المعارضة التى هدفت إلى تعديلات جوهرية توازن بين حقوق الملاك والمستأجرين. انسحب بعض نواب المعارضة من الجلسة، وأصدروا بيانًا يعترفون فيه صراحة بفشلهم فى تقديم «منتج تشريعى يحافظ على حقوق الملاك والمستأجرين بشكل متوازن».
المفارقة، أنه وبعد أقل من 24 ساعة، ظهر بعض من هؤلاء النواب أنفسهم كممثلين عن أحزابهم، فى اجتماعات ترتب لتشكيل قائمة «من أجل مصر» التى ستخوض انتخابات مجلس الشيوخ، إلى جوار أحزاب الأغلبية ذاتها التى تجاهلت مقترحاتهم ومررت القانون كما أرادت!
تابع الرأى العام مشهد الانقسام الحاد تحت القبة، لكنه لم يفهم بعد كيف اجتمع المختلفون ــــ أيديولوجيًا وتشريعيًا ـــــ وما هى الرؤية أو البرنامج الذى من المفترض أن يطرحوه ليحصلوا على ثقة الناخبين.
الحجة المعتادة التى تُسوَّق فى كل مرة لتجميع «الشامى والمغربى» فى قائمة واحدة هى «مصلحة مصر»، وكأن المنافسة السياسية تُهدد الوطن، والتعددية تُضعف الجبهة الداخلية، وكأننا فى ظرف استثنائى دائم يُحتم على الحكومة تنحية السياسية بشكل عام وحصار أدواتها.
صحيح أن بلادنا تواجه أزمات معقدة وتحديات ضاغطة، لكن لا سبيل لتجاوزها بانتخابات مُهندسة، تفرز برلمانا مؤيدا على طول الخط.
الانتخابات البرلمانية المرتقبة كانت تمثل فرصة لاختبار ما جرى الترويج له منذ إطلاق الحوار الوطنى بأن بلادنا ستمضى فى مسار للإصلاح السياسى، فإذ بنا نعود مجددا إلى المربع «صفر»، حيث يتم تفصيل المشهد النيابى بذات الآليات. لتهدر تلك الفرصة للأسف، كما أُهدرت من قبل فرص عديدة.
لا حاضر بلا تعددية، ولا مستقبل بلا منافسة، ولا إصلاح سياسى حقيقى دون برلمان يُعبّر عن إرادة الناس.