قمة الديمقراطية المأزومة - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 3:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قمة الديمقراطية المأزومة

نشر فى : الإثنين 6 ديسمبر 2021 - 9:30 م | آخر تحديث : الإثنين 6 ديسمبر 2021 - 9:30 م
وفاءً بوعد انتخابى، وامتثالا لعقيدة سياسية، والتزاما بمبادئ حزبية، ورضوخا لضغوط الجناح التقدمى بالحزب الديمقراطى، دعا الرئيس الأمريكى، جو بايدن، قادة نحو 110 دول، للمشاركة فى قمة افتراضية حول الديمقراطية، يومى التاسع والعاشر من الشهر الجارى. وإلى جانب حلفاء واشنطن الغربيين، دُعيت الهند، وباكستان، وجنوب أفريقيا، والكونغو، ونيجيريا، والنيجر، وإسرائيل. وفى خطوة من شأنها زيادة منسوب التوتر المتأجج مع بكين، تم توجيه الدعوة لتايوان، التى لا تعترف واشنطن بها كدولة ذات سيادة، بقدر ما تراها نموذجا ديمقراطيا يحتذى فى مواجهة تسلط التنين الصينى، ذلك الذى يعتبر الجزيرة، جزءا لا يتجزّأ، من أراضيه، ويتعهّد باستعادتها، ولو بالقوة إذا لزم الأمر.
ردا على استبعادها موسكو وبكين من القمة الديمقراطية، اتهم الكرملين إدارة بايدن باستدعاء عقلية الحرب الباردة، لاستحداث خطوط تقسيم كونية جديدة، تخولها تصنيف الدول، بين جيدة وسيئة، وفقا لهواها. أما بكين، فأعربت عن بالغ استيائها من دعوة تايوان، التى ليس لها حيثية فى القانون الدولى، سوى تبعيتها للصين. وبالنظرإلى انتقاداته المتوالية للتجربة الديمقراطية التركية فى عهد أردوغان، ووصفه الأخير بـ«المستبد»، لم يكن مفاجئا عزوف بايدن عن دعوة تركيا للقمة، برغم عضويتها فى الحلف الأطلسى. وفى تكريس موجع لأطروحة «الاستثناء العربى»، اقتصرت قائمة المدعوين من الشرق الأوسط على إسرائيل والعراق، مع استبعاد حلفاء واشنطن العرب.
خلافا للديمقراطيات التاريخية الراسخة، التى احتلت قصب السبق فى استيطان الفردوس الديمقراطى مبكرا، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، يطيب لمؤرخين وخبراء تقسيم مسيرة التحول الديمقراطى حول العالم إلى مراحل. ففى سفره الصادر عام1991، بعنوان: «الموجة الثالثة..التحول الديمقراطى فى أواخر القرن العشرين»، حدد المفكر وعالم السياسة الأمريكى، صامويل هنتنجتون، تلك المراحل، فى موجات ثلاث متتابعة. اجتاحت أولاها دول غرب أوربا، عقب الحرب الكونية الأولى. وعلى أثر الحرب الكونية الثانية، غمرت ثانيتها بعض دول وسط أوروبا، وأمريكا الجنوبية واليابان، وتركيا، قبل أن تلحق بهم بعض الأنظمة العسكرية الفاشية فى أوروبا، كإسبانيا والبرتغال واليونان، بعد انقضاء ثلاثة عقود. أما ثالثتها، فاندلعت عقب انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتى عام 1991، وشملت دول شرق أوروبا، وبعض بقاع القارة السمراء. فى غضون ذلك، ظهر التمييز بين نوعين من التجارب الديمقراطية. أحدهما راسخ مستقر، كدول الديمقراطيات التاريخية ومن سار على دربها، والآخر مضطرب وغير مستقر، كذلك الذى تجسده الحالة التركية. وما بين أولئك وهؤلاء، بقيت الدول العربية معزولة عن الموجات الثلاث، مجسدة ما اصطلح على تسميته «الاستثناء العربى»، الذى يعكس استعصاء إنجاز عملية تحول ديمقراطى مكتملة الأركان، وناجحة، ومستدامة فى هكذا بلدان.
أما اليوم، فيتشح الجدل السياسى بنبرة تشاؤمية تنبعث من تراجع مؤسف للديمقراطية على المستوى الكونى، لم تسلم منه حتى الديمقراطيات التاريخية الراسخة. فقبل نهاية الشهر الماضى، أفصحت دراسة للمعهد الدولى للديمقراطية والمساعدة الانتخابية، باستوكهولم، بشأن «حالة الديمقراطيةعام 2021»، عن ارتفاع غير مسبوق فى أعداد الدول المنزلقة نحو الاستبداد، منذ العام 2016. علاوة على تزايد مقلق فى أعداد الديمقراطيات الراسخة المهددة، حتى غد 70% من سكان العالم يعيشون حاليا، إما فى ظل أنظمة غير ديمقراطية، أو فى كنف دول تشهد انحسارا ديمقراطيا. فبينما كانت فئة «الديمقراطيات المتراجعة» تضم سبع دول فقط قبل عشر سنوات، تضاعف عددها العام الماضى، حتى تجاوز تلك السالكة طريق الديمقراطية. وخلال العام الجارى، انحصرت الأخيرة فى 98 دولة فقط، مع 20 نظاما «هجينا»، كما هو الحال فى روسيا، والمغرب، وتركيا، و47 استبداديا، مثلما هو سائد فى الصين وإثيوبيا وإيران. وأظهرت الدراسة، التى اعتمدت على بيانات تم جمعها منذ عام 1975، تفاقم الضغوط على الممارسة الديمقراطية فى دول عدة، جراء تآكل الضوابط المفروضة على الحكومات، وتراجع استقلال القضاء، وانكماش حرية التعبير، وتدهور أوضاع حقوق الإنسان، وتنامى ظاهرة رفض نتائج الانتخابات النزيهة، وتفاقم العقبات أمام المشاركة، وتعاظم النزوع للاستقطاب الجامح.
مفجعة بدت الردة الديمقراطية فى دول أمريكا اللاتينية وحوض الكاريبى، على خلفية انتهاك أنظمتها «الميثاق الديمقراطى للدول الأمريكية»، الذى وقعته الدول الـ34 الأعضاء فى «منظمة الدول الأمريكية»، باستثناء كوبا، عام 2001، ويحض على الالتزام المشترك بتعزيز الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. أما الانتكاسة المدوية، فكانت من نصيب الهند، التى توصف بالديمقراطية الأضخم عالميا، كونها سابع أكبر مساحة جغرافية، وثانى أضخم تكتل بشرى يبلغ1,5 مليار نسمة، يصوت ثلثاهم فى الانتخابات. وبتكلفة مالية تناهز ستة مليارات دولار، تحتل انتخاباتها المرتبة الثانية عالميا، بعد نظيرتها الأمريكية.وقد شارك 464 حزبا سياسيا فى انتخابات 2014، من بين 2293 حزبا مسجلين لدى المفوضية العليا للانتخابات، يحق لهم خوض غمار النزال الانتخابى الممتد على سبع مراحل.
رغم ذلك، تعانى التجربة الهندية تصدعات تهدد مستقبلها.حيث تتبنى حكومة حزب بهاراتيا جاناتا، التى تتولى السلطة منذ عام 2014، سياسات قومية هندوسية عنصرية، تتعارض مع دستور البلاد العلمانى، وتناقض نهج سياستها الخارجية.حيث تعمد إلى تحويل البلد العلمانى متعدد الأعراق، إلى كيان أصولى هندوسى، عبر حرمان غير الهندوس من حقوقهم، وإجبارهم، كما اللاجئين من دول الجوار، على اعتناق الهندوسية، كشرط للحصول على المواطنة. وفى كتابه المعنون: «هند مودى: وطنية هندية وصعود ديمقراطية إثنيّة»، يرى الاختصاصى بالشأن الهندى، كريستوفر جافريللو، أن الهند تحت سلطة رئيس الوزراء، ناريندرا مودى، تتجه صوب «سلطوية انتخابية». ما يعد انتكاسة ديمقراطية تطال تداعياتها الخطيرة عموم القارة الآسيوية. وفى مسلكها الرجعى، ترتكن الهند على دعم أمريكى، مبعثه اعتماد واشنطن الاستراتيجى عليها، كجبهة أمامية للمعسكر الغربى فى الصراع المتصاعد ضد التهديد الصينى المتعاظم.
للمرة الأولى، رصدت الدراسة تراجعا للديمقراطية الأمريكية، إبان النصف الثانى من الولاية الرئاسية اليتيمة لدونالد ترامب. إذ سلطت الضوء على «المنعطف التاريخى»، الذى انزلق إليه «حصن الديمقراطية العالمية»، فجعلها ضحية لنزعات سلطوية، وحولها إلى مجتمع يفتك به الاستقطاب، ويرفض فيه المرشح الرئاسى المهزوم بالانتخابات النزيهة، قبول النتائج، بل ويمعن فى ترويج الأكاذيب بشأن تزويرها وسرقتها، بينما لا يتورع عن تأجيج الهجوم الغوغائى على الكونجرس مطلع العام الجارى. وأماطت الدراسة اللثام عن قمع لتظاهرات أعقبت مقتل جورج فلويد، على يد الشرطة صيف العام 2020، ثم فى احتجاجات أنصار ترامب على نتائج الاقتراع الرئاسى بعدها بأشهر قلائل. بيد أن بعض معدى الدراسة، يرون أن الولايات المتحدة لا تزال «ديمقراطية عالية الأداء»، عازين ما شابها من تراجع عرضى، إلى انخفاض مرحلى فى المؤشرات المتعلقة بالحريات المدنية، والإشراف على عمل الحكومة.كأننا بهم وقد استحضروا مقولة تشرشل: «الديمقراطية هى أقل أنظمة الحكم سوءا»، حيث تكمن عبقريتها فى قدرتها الفريدة على تصحيح نفسها بنفسها.
إلى عوامل شتى، أرجعت الدراسة أفول الديمقراطية عالميا. فبموازاة استخدام التضليل الإعلامى لتقسيم المجتمعات، يبرز استغلال قيود جائحة «كوفيدــ19» لإسكات المنتقدين، وتبرير السلوك السلطوى لبعض الأنظمة. وبذريعة مواجهة الجائحة، تتخذ أكثر من ست دول، من بين كل عشر، إجراءات تتنافى مع معايير حقوق الإنسان والقواعد الديمقراطية. كونها غير ملحة، وغير قانونية، وغير متناسبة، وغير مؤطرة زمنيا. ودحضت الدراسة المزاعم المتعلقة بتفوق أنظمة سلطوية، على نظيرتها الديمقراطية، فى احتواء الأوبئة. فمع صعود السياسات الشعبوية، تتراءى الفوضى المنظمة للكثيرين، كديمقراطية جماهيرية، ومن ثم، تجنح بعض الأنظمة للتأسى بأخرى متسلطة، فى إجهاض التحول الديمقراطى. ولكم غررت التجربة الصينية فى النمو الاقتصادى ومناهضة الأوبئة، بعديد دول، للعدول عن توسل الديمقراطية الليبرالية كمقاربة للتنمية والتحديث المستدامين. وكشفت الدراسة، كذلك، التاثيرات السلبية للعولمة على الديمقراطية الانتخابية، والتى استثمرتها الأنظمة الاستبدادية، والأقليات النافذة اقتصاديا، فى الدول الديمقراطية.كما سلطت الضوء على معضلة «الديمقراطية الانسيابية»، التى تستعيض بوسائل التواصل الاجتماعى عن المؤسسات والانتخابات، بما يُحول التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعى، بمرور الزمن، إلى «ديكتاتورية رقمية».
فى مؤلفه المثير بعنوان: «الشعب ضد الديمقراطية»، يحذر البروفيسور بجامعة «جونز هوبكنز»، ياشا مونك، من تلك الظواهر، بالقول: «الشعبوية وحركات النخبة تخلق مزيجا من الديمقراطية اللاليبرالية، والليبرالية اللاديمقراطية». وفى مقاله بفصلية «فورين أفيرز»، مؤخرا، ادعى أن «قصة العقد الأخير ليست قصة الديمقراطية بمقدار ما هى قصة السلطوية، فما يشهده العالم، ليس تراجعا للديمقراطية، بقدر ما هو انبعاث للسلطوية». ومن ثم، لم تعد الغاية، برأيه، منصبة فى تعزيز الديمقراطية وتوسيع نطاقها، بقدر ما تنصرف إلى حماية الديمقراطية، عبر الحفاظ على ما تبقى منها. وفى توصيفها للحالة الأوروبية الراهنة بمؤلفها المعنون: «ديمقراطية وديكتاتورية فى أوروبا»، قالت، شيرى بيرمان: إن«تنامى لا شعبية الاتحاد الأوروبى أعطى ذخيرة للقومية والشعبوية، اللتين تهددان الديمقراطية الليبرالية فى أوروبا اليوم».
إلى جانب السمت الانتقائى المُسيس لاختيار المشاركين فى «قمة الديمقراطيات»، التى تضم دولا، تؤكد جهات وتقارير دولية موثوقة، تدهور سجلاتها فيما يخص الممارسة الديمقراطية، مثل الهند، والبرازيل، وبولندا، يواجه، بايدن، إشكالية اهتزاز صورة النموذج الديمقراطى الأمريكى، كنبراس ملهم لسائر الديمقراطيات الناشئة. الأمر الذى يجعل من القمة، محض محاولة أمريكية لإضفاء صبغة قيمية على الصراع المعقد والمتصاعد بين واشنطن، وذلك التحالف الآخذ فى التشكل ببطء وحذر، بين موسكو وبكين. فلطالما أكد الرئيس الديمقراطى، منذ وصوله إلى البيت الأبيض فى يناير الماضى، أن سياسته الخارجية تنبعث من يقين فى حتمية المواجهة بين معسكر ديمقراطى تتزعمه الولايات المتحدة، وآخر استبدادى، تتصدره الصين وروسيا، اللتان تعتبرهما استراتيجية الأمن القومى الأمريكية الجديدة، عدوتين جيوسياسيتين مركزيتين لواشنطن.
يفلح الرئيس الأمريكى، إن صدق وابتغى بقمته، التى ستضم قادة سياسيين وممثلين عن المجتمع المدنى، سبر أغوار محنة الديمقراطية المعاصرة. فلعله يهتدى للآليات الكفيلىة بإبرائها من آفاتها وأسقامها، توطئة لاستنهاضها وتجديدها وأنسنتها، بدلا من استخدامها أداة للابتزاز، أو مرجلا لحرب باردة جديدة.
التعليقات