اختلال توازن القوى - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الإثنين 14 يوليه 2025 11:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

اختلال توازن القوى

نشر فى : الإثنين 14 يوليه 2025 - 8:05 م | آخر تحديث : الإثنين 14 يوليه 2025 - 8:05 م

تُشكِّل نظرية «توازن القوى» إحدى مرتكزات المدرسة الواقعية الكلاسيكية فى دراسة العلاقات الدولية، وترتكز على أن تحقيق «توازن القوى» بين الدول والتحالفات، بحيث تبقى فى حالة تكاد تتعادل فيها قوتها العسكرية، على أساس القدرة المتبادلة على الإيذاء والتدمير، كفيلٌ بالحيلولة دون نشوب النزاعات المسلحة فيما بينها. ومن ثم، فهى تعتبر سعيَ إحدى الدول لتنمية قدرتها العسكرية إلى مستوى يُخل بتوازن القوى ويُخوّلها فرض قيمها وتصوراتها على محيطها، مدعاةً لعدم الاستقرار. لذا، تلجأ الدول إلى ترسيخ توازن القوى من خلال إبرام معاهدات تلتزم فيها أطرافها بإبقاء قوتها العسكرية تحت سقوف مقبولة. وبعدما تضع الحروب أوزارها، تعكف الأطراف المتحاربة على بلورة تفاهمات تكفل استعادة توازن القوى، وتتيح هندسة الترتيبات التى تضمن استدامته وعدم الإخلال به. من هذا المنظور، يغدو السلام والاستقرار نتيجة مباشرة لنجاح قيادة النظام العالمى أو الإقليمى فى منع أية دولة من تعظيم قوتها الشاملة وتحقيق التفوق الكاسح على جيرانها؛ بما يُغريها بقهرهم أو ابتزازهم، ما يضطرهم إلى الالتئام فى تحالفات دفاعية لكبح جماحها.

 


خلال الفترة (431-404 ق.م)، نشبت «حرب البيلوبونيز» بين إمبراطوريتَى أثينا وإسبرطة، اللتين كانتا تمثلان قطبى السياسة العالمية آنذاك. وقد أرَّخ لها المفكر اليونانى ثيوسيديدس فى مؤلفه المعنون تاريخ الحرب البيلوبونيزية، مرجعًا سببها إلى تفاقم قوة أثينا إلى مستوى غذّى مخاوف إسبرطة، حتى دفعها إلى شن حرب إجهاضية وقائية عليها. ومن ثم، شكّل الخلل الملفت فى توازن القوى سببًا لاندلاع الحرب التى انتهت بهزيمة أثينا. وفى عام 2020، أعاد عالم العلاقات الدولية «جراهام أليسون» بجامعة هارفارد، تسليط الضوء على تلك المقاربة، مطلقًا عليها اسم «فخ ثيوسيديدس»، فى محاولة منه لفهم وتحليل مآلات التنافس الراهن بين واشنطن وبكين ضمن نظام عالمى أقرب إلى السيولة الجيوسياسية وإعادة التشكل، متسائلًا عمّا إذا كان تعاظم القوة الشاملة للصين، واقترابها من اللحاق بالولايات المتحدة، كفيلًا بتأجيج الصدام بين العملاقين المتنافسين.
طوال الحقبة التى هيمن خلالها نظام توازن القوى على عالم السياسة الأوروبية، منذ «معاهدة وستفاليا» عام 1648 وحتى نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، سادت حالة من السلام والاستقرار. غير أنها تعرّضت للتهديد غير مرة، عقب انفجار الثورة الفرنسية عام 1789، وما استتبعته من مواجهات عسكرية بين فرنسا والممالك الأوروبية المتحالفة ضدها وقتذاك. لكن جرى احتواؤها بعدما وضعت الحروب النابليونية أوزارها، إثر هزيمة الجيش الفرنسى فى معركة «ووترلو» عام 1815، عبر إعادة إرساء توازن القوى من خلال توقيع معاهدة فيينا فى العام ذاته.
استنادًا إلى متغيرات مستحدثة شتى، تدفقت مياه غزيرة فى مجرى التأصيل العلمى لنظرية “توازن القوى”، تجلت فى إسهامات أكاديمية رصينة، كان من أبرزها: سفر "هانز مورجانثو" المعنون السياسة بين الأمم، الصادر عام 1948، وكتاب “هيدلى بول” المجتمع الفوضوى عام 1977، ثم “كينيث والتز” نظرية العلاقات الدولية عام 1979. وفى هذا المضمار، أطلت إضاءات الأكاديمى والسياسى الأمريكى الأشهر، هنرى كيسنجر، الذى كرّس دراساته العلمية الثرية وتجربته السياسية المثيرة لترسيخ مبدأ "توازن القوى" باعتباره ذروة سنام العلاقات الدولية على مرّ الأزمنة. كما ضرب نموذجًا عالميًّا يُحتذى، باعتباره "صانع التوازن الثلاثي" فى علاقات واشنطن مع كل من الصين والاتحاد السوفييتى مطلع سبعينيات القرن الماضى.
من رحم الحرب العالمية الثانية، انبلجت الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن. فعلى خلفية تنامى الارتياب المبكر والمتبادل بين موسكو والغرب، جراء التضخم المقلق فى قوتهما الشاملة؛ تعمّدت واشنطن إذكاء المواجهات الطاحنة بين روسيا وألمانيا النازية أثناء الحرب على الجبهة الأوروبية، طمعًا فى كسر شوكتيهما العسكرية المتعاظمة. بدوره، اعتبر ستالين استخدام الولايات المتحدة السلاح النووى للمرة الأولى فى التاريخ ضد اليابان فى أغسطس 1945، بغير مبرر استراتيجى - إذ كانت طوكيو بصدد الاستسلام - استعراضًا تصعيديًّا للقوة القاهرة، المستندة إلى السلاح الفتّاك الجديد الذى أطاح بتوازن القوى حينها. وهو ما أجج مخاوف السوفييت من نوايا الأمريكيين بشأن الهيمنة على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما دفع موسكو إلى استعادة ذلك التوازن من خلال العمل الدؤوب لامتلاك السلاح النووى، وكسر الاحتكار الأمريكى له بحلول عام 1949.
تعانى منطقة الشرق الأوسط اليوم خللًا مريبًا فى توازن القوى. فبينما تنفرد إسرائيل بامتلاك أسلحة الدمار الشامل وأدوات إيصالها، لا سيما الأسلحة النووية؛ لم تتورع عن تقويض مرتكزات القوة الشاملة للدول المجاورة، معتمدةً على دعم غربى متجدد لتطوير وتعظيم قدراتها العسكرية كمًّا ونوعًا، ولم تتردد فى استخدام قوتها الغاشمة لفرض رؤيتها الأحادية التوسعية لمستقبل الإقليم. الأمر الذى ينذر بانزلاق المنطقة إلى غياهب مآلين كارثيين: أولهما، الحيلولة دون إرساء توازن القوى المطلوب لإقرار السلام والاستقرار المستدامين. فبينما تؤكد نظرية «توازن القوى» على ضرورة التزام القوى العظمى، ممثلة فى الولايات المتحدة حاليًا، كبح جماح القوة الإقليمية التى تنزع إلى الإخلال بتوازن القوى الشرق أوسطى، عبر التدخل لمنعها من مفاقمة قوتها توطئةً لفرض أطماعها التوسعية؛ نجد أن العكس هو الذى يحدث. إذ لم تتورع إدارة ترامب عن التواطؤ مع حكومة نتنياهو، دعمًا عسكريًا، وتوفيرًا للمظلة السياسية والحماية القانونية لخروقاتها وانتهاكاتها بل إن ترامب لم يستنكف عن مطالبة القضاء الإسرائيلى بوقف محاكمة نتنياهو بتهم الفساد، وخيانة الأمانة، وسوء استغلال المنصب الحكومى.
أما ثانيهما، فيتجلّى فى ارتدادات تلويح أوساط إسرائيلية متطرفة بضرورة استهداف دول، مثل تركيا، مصر أو باكستان بعد الانتهاء من العدوان الحالى على فلسطين ولبنان وسوريا وإيران. الأمر الذى من شأنه تحفيز تلك القوى الإقليمية الغاضبة لتشكيل تحالفات أو بناء شراكات استراتيجية تبتغى إفشال مخططات إسرائيل الرامية إلى تكريس التفوق العسكرى القاهر، وفرض سلام مشوَّه من خلال القوة، وهندسة شرق أوسط جديد يتماشى مع مآربها. وهو ما يفضى إلى تفخيخ الإقليم برمته. فوفقًا لكينيث والتز، مؤسس تيار «الواقعية الجديدة» فى العلاقات الدولية؛ تسود سياسة توازن القوى عندما يتم استيفاء مطلبين أساسيين: أولهما، أن يكون النظام العالمى أو الإقليمى فوضويًا. وثانيهما، أن يبقى مفعمًا بوحدات دولية تتشبث بآمال البقاء، التى يتم بلوغها بواحد من سبيلين: إما تحقيق «التوازن الداخلى»، عبر تعزيز الدول لقدراتها الاقتصادية، وتطوير إمكاناتها التكنولوجية، وتنمية قوتها العسكرية؛ وإما إدراك "التوازن الخارجي"، من خلال اعتماد تدابير خارجية لحماية أمنها، على شاكلة هندسة تحالفات وشراكات استراتيجية مع دول أخرى. فحينما تتعرض دولة ما للتهديد، تلجأ إلى توسل الحماية عن طريق توسل توازن القوى، إما عبر التحالف مع دول أخرى تدانيها فى القوة والإمكانات لمواجهة الخطر المحدق، أو من خلال موالاة القوى العظمى التى تضمن لها الحماية.
تكاد تتفق آراء خبراء العلاقات الدولية على أن النظام العالمى الذى يضم مختلف الدول، إنما هو، فى الأصل، نظام فوضوى، كونه يفتقر غالبًا إلى سلطة مركزية قادرة على فرض القانون والمراجعة والحوكمة عبر الثواب والعقاب على أساس موضوعى بين تلك الدول. ففى حديثه لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية فى أغسطس 2022، ارتأى وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، هنرى كيسنجر، أن العالم أضحى على شفا اختلال خطير فى توازن القوى، يوشك أن يضع الولايات المتحدة على شفير مواجهة عسكرية شرسة مع الصين وروسيا. وفى آخر مؤلفاته بعنوان القيادة: ست دراسات فى الاستراتيجية العالمية، اعتبر كيسنجر «توازن القوى» ضالة القادة ورجال الدولة، التى يتعين عليهم اقتفاء أثرها فى كل زمان ومكان. ولعل ذلك ما دفع الرئيس البرازيلى لولا دا سيلفا، إلى دق ناقوس الخطر عبر منصة قمة بريكس السابعة عشرة، التى استضافتها بلاده، محذرًا من «انهيار التعددية العالمية»، داعيًا إلى إعادة بناء الحوكمة الدولية على أسس أكثر عدلًا، متأملًا أن تُشكّل «بريكس» قطبًا عالميًا ثانيًا، وموئلًا للدبلوماسية متعددة الأطراف.

التعليقات