تقتضى النداءات الدولية المتواصلة لاستعادة الأمن والاستقرار فى ربوع الشرق الأوسط ضرورة اضطلاع واشنطن وحلفائها الأوروبيين بمسئولياتهم الأخلاقية والإنسانية، من حيث إعادة بناء الدول المتضررة واستبقاء وحدتها وتماسكها. بدءًا من احتواء التوترات وخفض التصعيد، مرورًا بإعادة الإعمار ودعم المنظومات الأمنية، وصولًا إلى إرساء الأطر الدستورية والمؤسسية الكفيلة باحتواء، دمج، وتأهيل التكوينات الإثنية والفصائل المسلحة ضمن نسيج ما يُعرف بالدولة الوطنية، بحيث تبقى موحدة، قوية، حامية، وضامنة لحقوق قاطنيها كافة، من دون تمييز أو إقصاء، أسوةً بما شهدته تجارب عالمية شتى.
كأننا بسوء طالع منطقتنا، وقد ابتُليت بتواطؤ عواصم غربية مع المخططات والانتهاكات الإسرائيلية المزمنة والممنهجة، الرامية إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط وفقًا للرؤية الإسرائيلية - الأمريكية. تلك المخططات، التى تعتمد أساسًا على استثمار القوة العسكرية الباطشة واستغلال الثغرات المذهبية والإثنية لتقويض الدعائم الهشة للدولة الوطنية العربية، وهى التى لا تزال تشكل امتدادًا لكيانات ما بعد الحقبة الاستعمارية، بينما تكابد ارتدادات «الربيع العربى» ومخططات ما بعد طوفان السابع من أكتوبر 2023.
منذ سقوط النظام الأسدى نهاية العام الماضى، تغض واشنطن الطرف عن مؤامرات إسرائيل المشينة للإجهاز على القدرات العسكرية للدولة السورية. حتى إن مبعوث الرئيس ترامب إليها، توماس باراك، لم يتورع عن مناشدة رئيسها الانتقالى، أحمد الشرع، استجداء «مساعدات أمنية إقليمية» لضبط الأمن ومحاربة الإرهاب. وقبل فترة قصيرة، نسبت مصادر غربية غير رسمية للرئيس الأمريكى قوله إن «خارطة الشرق الأوسط الجديد تتطلب ضم لبنان إلى سوريا، فى حال فشلت حكومة بيروت فى نزع سلاح حزب الله». ومؤخرًا، دعا باراك الرئيس السورى إلى «تبنّى نهج أكثر شمولًا بعد جولة جديدة من الصراعات الطائفية الدامية، وإلا سيكون مهددًا بفقدان الدعم الدولى وتفتيت بلاده». وردًا على سؤال بشأن إمكانية أن تئول سوريا إلى ما آلت إليه ليبيا أو أفغانستان، قال: «نعم.. بل وأسوأ من ذلك». وفى حوار متلفز، أكّد وزير الخارجية التركى رصد بلاده تحركات انفصالية لبعض التكوينات الإثنية داخل سوريا عقب أحداث السويداء. أما على مستوى التنظير المُغرض، فلم يتردد كل من ديفيد ومارينا أوتاواي، فى كتابهما المعنون: «قصة أربعة عوالم فى المنطقة العربية»، فى إدراج العراق، سوريا، ولبنان ضمن قائمة «اللادول».
مثلما تأبى إسرائيل إلا أن تشكك فى أهلية الدولة اللبنانية لاحتكار حيازة السلاح واستخدام القوة، لا تتوانى عن اتهام النظام السورى بالعجز عن الاضطلاع بالوظائف الأمنية، الاقتصادية، والسياسية المنوطة به، لا سيما حماية الأقليات. ويأتى هذا رغم تأكيد الرئيس الانتقالى التزامه حماية الأقليات، وتوقيعه اتفاقًا يقضى بوقف شامل لإطلاق النار، ودخول مؤسسات الدولة العسكرية إلى السويداء، وحل جميع الفصائل، وتسليم سلاحها الثقيل ودمجها فى وزارتى الداخلية والدفاع. وعلى وقع تجدد الاشتباكات فى السويداء بين المسلحين الدروز ومقاتلى القبائل والعشائر العربية، عمدت إسرائيل إلى المتاجرة بالأزمة لتبرير مؤامراتها ضد وحدة سوريا وسيادتها، حيث أعربت عن قلقها على أمن وحقوق الأقليات، ودعت المجتمع الدولى للتدخل لصونهما، مع رهن إعادة قبول سوريا فى المحافل الأممية بمدى نجاحها فى هذا الخصوص.
تتزامن هذه المهاترات مع تصاعد احتمالات عودة التهديد الداعشى. فبعد سقوط النظام البعثى، توالت المؤشرات الأمنية بشأن معاودة التنظيم لملمة شتاته، خصوصًا فى البؤر الرخوة بجنوب وشرق سوريا. فبرغم تلقيه ضربات قاصمة خلال السنوات الماضية، يحاول التنظيم اليوم استغلال المرحلة الانتقالية لإعادة التموضع، وسط تراجع سيطرة المركز فى دمشق، واندلاع الاضطرابات فى الأطراف. وقد شكّل تبنّى التنظيم لهجوم بعبوة ناسفة فى السويداء، استهدف قوات أمن تابعة للنظام الجديد نهاية مايو الماضى، إنذارًا قويًا بعودة «داعش» إلى صدارة المشهد فى الجنوب السورى.
لم يتردد توماس باراك فى تهديد لبنان صراحة بأن تقاعسه فى نزع سلاح حزب الله سيضطره إلى الذوبان فيما كان يُسمى «سوريا الكبرى» أو «بلاد الشام». وبالتزامن، يعانى لبنان معضلة عودة تنظيم «داعش» الإرهابى. ففى تطور خطير، أعلنت مديرية المخابرات فى الجيش اللبنانى عن كشف بنية تحتية كاملة لخلية تابعة للتنظيم تحمل اسم «ولاية لبنان»، تخطط لشن هجمات واسعة داخل البلاد، تستهدف مؤسسات الدولة، واقتحام سجون لإطلاق سراح سجناء دواعش. وقد تم رصد أعضاء الشبكة فى ثلاث بؤر استراتيجية: شمال لبنان، البقاع، ومخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين؛ ما يعكس تعقيد الخريطة الجغرافية واللوجستية التى يتحرك فيها التنظيم. ويعد هذا التطور تحولًا نوعيًا فى استراتيجية «داعش» داخل لبنان، لا سيما أن الخلايا السابقة كانت تُعرّف نفسها بوصفها امتدادًا لـ«ولاية الشام»، أما اليوم فينشد التنظيم تأسيس كيان محلى مستقل، يعكس طموحه لاستغلال هشاشة الوضع اللبنانى المفعم ببيئات مهمّشة، يمكن أن تشكل حواضن وروافد تجنيد مثالية، خاصة فى أوساط اللاجئين الفلسطينيين والسوريين. ورغم الانحسار الملحوظ فى نشاط التنظيم عقب عملية «فجر الجرود»، التى أطلقها الجيش اللبنانى عام 2017 لطرد 600 داعشى من البلدة الحدودية؛ ينذر التطور الراهن بعودة نمط مختلف من التهديد الإرهابى، يتبنى استراتيجيتى الشبكات الخفية والعمل تحت الأرض، دون السيطرة الميدانية التقليدية.
على صعيد موازٍ، استدعى تصويت «الكنيست» الإسرائيلى مؤخرًا، بغالبية 71 نائبًا من أصل 120، لمصلحة اقتراح بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وغور الأردن، مخاوف المملكة الهاشمية من كوابيس التوطين والوطن البديل. فرغم افتقاد الخطوة لأى صفة قانونية إلزامية، فإنها تكرس الإجهاض الممنهج للولادة المستعصية للدولة الفلسطينية، عبر تثبيت السيادة الإسرائيلية على الأراضى المحتلة عام 1967. ومع إصرار الاحتلال على تهجير ما يناهز ثلاثة ملايين فلسطينى من الضفة الغربية، المتداخلة جغرافيًا وديمغرافيًا مع نظيرتها الشرقية؛ تتعاظم التهديدات الوجودية للمملكة التى تستضيف 2.1 مليون لاجئ فلسطينى، فيما يشكل الأردنيون من أصول فلسطينية نحو نصف عدد سكانها. وبينما لا يحول اتفاق وادى عربة بين الأردن وإسرائيل دون غدر نتنياهو بالمملكة؛ فإن المخطط الإسرائيلى الشيطانى سيفضى إلى مفاقمة الضغوط على اقتصاد الأردن المضطرب، كما على قطاعات حيوية قلقة كالمياه، الطاقة، والبنية التحتية.
تسلّط الأزمة المتواصلة فى ليبيا الضوء على محنة دولتها الوطنية المهترئة. سياسيًا، ولجت البلاد نفقًا من الجمود أبقاها، منذ عام 2011، فى دوامة المراحل الانتقالية. إذ حالت الانقسامات السياسية والتناحرات الأمنية دون إتمام استحقاقات وطنية مصيرية، كصياغة دستور توافقى، وإجراء الانتخابات البرلمانية، البلدية، والرئاسية. تزامنًا مع فشل اتفاق الصخيرات عام 2015، واستعصاء توحيد مؤسسات الدولة وتشكيل سلطة مركزية، إلى جانب تعذر شغل المناصب السيادية، وتغول الفساد. أمنيًا، تكمن المعضلة فى تحوّل القوة داخليًا، عبر تسربها من سطوة السلطة المركزية إلى نحو 300 ميليشيا تستثمر فى وهن الدولة ومؤسساتها، بينما تستغلها أطراف داخلية وخارجية لبلوغ مآرب خبيثة. فضلًا عن انهيار الوضع الأمنى بالمنطقة الجنوبية، على وقع استمرار الحرب الأهلية السودانية، واشتداد وطأة الأزمة بين الجزائر ومالى. فى غضون ذلك، راجت التصريحات بشأن تقسيم البلاد. ففى يونيو 2024، حذّر رئيس حكومة طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، من أن ليبيا باتت «عرضة للتقسيم». وخلال إحاطتها أمام مجلس الأمن فى الشهر ذاته، أعربت نائب المبعوث الأممى إلى ليبيا عن مخاوفها من أن يؤدى الانقسام المتزامن مع التوترات الجيوسياسية إلى تقويض سيادة ليبيا ووحدة وسلامة أراضيها. وفى يونيو الماضى، عبّر بيان مشترك لبعثة الاتحاد الأوروبى وسفراء دوله الأعضاء لدى ليبيا عن مخاوف جدية من تقسيم البلاد.
ولا تكمن خطورة هذه التصريحات فيما تنطوى عليه من إيحاءات بإمكانية اعتبار تقسيم ليبيا خيارًا مطروحًا بقوة، مع خصوصية التكوين الجيوسياسى للدولة التى لم تعرف الوحدة الجغرافية والديموغرافية فى صيغتها الحالية إلا نهاية عام 1951، بل بسبب جمود التسوية السياسية، وانخراط قوى عالمية وأطراف إقليمية فى دعم المعسكرين المتصارعين. فدونما اكتراث بالمعضلات الوجودية التى تتربص بالدولة الليبية، تتعاطى القوى العظمى معها من منظور الحسابات الأمنية والمصالح الاستراتيجية الأحادية. ففى حين عقدت إيطاليا اتفاقيات مع ميليشيات محلية بغرض مكافحة الإرهاب العابر للمتوسط، والحد من موجات الهجرة غير النظامية، عبر إعادة توجيه العوائد واللوجستيات إلى جهات موالية لحكومة الدبيبة؛ بدأت واشنطن خلال الآونة الأخيرة تكثيف جهودها لتعظيم نفوذها فى ليبيا، بغية تعزيز هيمنتها على مواردها الطاقوية الوفيرة، علاوة على كبح جماح التغلغل الجيوسياسى الروسى المتسارع فى شرق المتوسط.