كتب المفكر إكرام لمعى مقال: «محمد أركون وفلسفة الأنسنة» بالشروق (28/10/2022)، استعرض فيه مسيرة وفلسفة المفكر الجزائرى محمد أركون (1928ــ2010)، وتَبَنِيه لنزعة «الأنسنة» (Humanism) التى دعى من خلالها إلى أن يُصبح الإنسان مرجعية نفسه بعيدًا عن النص والقيود، ونحن فى هذا المقال نستكمل بالتفصيل ما لم يتطرق إليه المقال عن نزعة «الأنسنة» عند أصحابها الأوائل، كما أننا سنقوم بتطبيق أهم عناصر نظرية أركون ذاته وهى «نقد» النص، أى نقد أفكار أركون، وهذا ما لم يفعله زميلنا الكريم الدكتور إكرام لمعى.
لقد طالب أركون بجعل «المقدس» أو «المطلق« «نسبى» فى كل الحالات، والعمل على أنسنته (أى إخضاعه لعقل الإنسان)، كان هذا المفهوم سببًا لاتهام أركون بالكفر وبالإلحاد، واعتباره مستشرقًا معاديًا للإسلام، ونحن نرى أن أنسنة «المقدس» بشكل مطلق هو خطيئة، ذلك أن عقل الإنسان مثل الإنسان غير كامل، فالكمال لله وحده، وأن إطلاق أى شيء على علاته يؤدى للفوضى، كما نعتقد أن أركون لم يكن يقصد بالمقدس العقيدة أو طبيعة الخالق أو تحليل ما حرمه الله مثل القتل والزنا..، أو إنكار ما هو معلوم فى كل الأديان مثل الصلاة والزكاة..، فهو لم يتطرق لهذا، من قريب أو من بعيد، وإنما كان يُعادى تقديس الثراث من أعمال الفقهاء ــ كما سنبين لاحقًا ــ ربما أنه بالغ فى دعوته لإعمال العقل النقدى، فأُسيء فهمه، وعلى كل الأحوال لا يمكن أن نعتبره كافرًا، وذلك لسببين:
الأول: أن أى مفكر هو «مجتهد»، يُخطيء ويصيب، فعن النبى ﷺ: «من اجتهد ولم يُصب فله أجر واحد، ومن اجتهد وأصاب فله أجران»، فضلًا عن أن «التكفير» يُعد كبيرة، فلا يجوز للمسلم أن يكفر أخاه، وهذا واضح فى الحديث النبوى: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِر؛ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا؛ إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ».
والثانى: أن أركون اعتمد فى دعوته على اثنين من أعلام المفكرين المسلمين: أبو على مسكويه (932ــ1030م) وأبو حيان التوحيدى (922ــ1023م)، فهما أول من دعيا لـ«لأنسنة» فى القرن الرابع الهجرى/ العاشر الميلادى، إذ اعتبرهما لب الفكر الإنسانوى لأنهما طالبا بالاهتمام بـ«الإنسان»، فهذا ما جاء فى كتابه «تاريخ الفكر الإسلامى»، وهذا ما أثار أيضًا حفيظة العلمانيين ضده، لأنه أخذ مرجعيته من التاريخ الإسلامى، ولم يأخذها من فلاسفة عصريّ النهضة والتنوير فى أوروبا (القرون السادس والسابع والثامن عشر) حيث طالبوا بالعودة إلى الجذور الإغريقية واليونانية!
لقد قدم أركون نظرية «الأنسنة» كنزعة فكرية فى التاريخ الإسلامى فى موقف دفاعى ضد طرفين: الأول هو الغرب الذى يتهم الإسلام بعدم الاهتمام بالإنسان وحقوقه، وبأنه نظام دينى لاهوتى لا يفكر فى الجانب البشرى من جهة، والثانى الفكر الأصولى المتطرف الذى لا يعترف بالقدرات البشرية العقلانية، ولا يضع الجانب البشرى فى صدارة اهتماماته من جهة أخرى.
• • •
إن جوهر نظرية أركون تدعو لاستعمال العقل، والابتعاد عن «النقل» الحرفى دون تحليله ونقده، وعليه طالب بنقد كُتب التراث والفقه باعتبارها أعمالًا بشرية، أى أنها «غير مطلقة»، وأنها «نسبية» خاضعة لـ«الزمان» و«المكان»: أهم عنصرين فى دراسات التحليل اللغوى لأى نص، وهذا يدخل فيه «أسباب النزول» لكثير من الآيات القرآنية، ومن هنا تم تصنيف آيات القرآن الكريم بعضها بأنه «مكى»، والآخر «مدنِّي»، إلا أن أصحاب الخطاب الدينى المتعصب هاجموه بشدة، وكفروه رغم مرجعيته الإسلامية كما سبق الإشارة!
وعليه، نستطيع أن نقول إنه يُحسب لأركون مطالبته بتطبيق العقل النقدى، ومحاولته تجديد الخطاب القديم على أسس حديثة، كما أنه أعاد «الأنسنة» إلى أصولها الإسلامية، علمًا بأن الرسالات السماوية كلها، وعلى رأسها الإسلام، جاءت من أجل مصلحة الإنسان ولهدايته فى الدنيا والآخرة؛ ولكن ما يُحسب عليه هو جُرأته المبالغ فيها، فاعتبره المتشددون أنه داع لتحطيم المق§دس، متأثرًا بفلاسفة الغرب الإصلاحيين الذين ثاروا على سيطرة الكنيسة فى كل نواحى الحياة، وسيطرة رجالاتها خاصة فى العلوم الطبيعية، ويشهد على ذلك موقف الكنيسة من عالِم الفلك نيكولاس كوبرنيكوس صاحب نظرية حركة الكواكب حول نفسها، ودورانها حول الشمس، فهو لم يجرؤ على كشف نظريته إلا قبل وفاته ببضع أيام خوفا من الكنيسة التى أدانت نظريته عام 1616 برئاسة البابا بول الخامس، واعتبرتها متعارضة مع الأناجيل، ومن بعده عالم الفيزياء والفلك جاليليو جاليليه الذى كفرته أيضًا الكنيسة لأنه أثبت صحة نظرية كوبرنيكوس بعد اختراعه لمنظاره الذى مكَّنه من رؤية حركة كوكب الزهرة!
والجدير بالذكر أن أركون لم يدعُ وحده لتحكيم العقل، وإنما يوجد كُثر غيره من أهمهم طه حسين والمفكر المغربى محمد عابد الجابرى (1935ــ2010)، وأبرز مؤلفاته: ’«نقد العقل العربى»، وهو مبتكر مصطلح «العقل المستقيل».
وبالعودة إلى جذور «الأنسنة»، نرى مضمونها الأساسى يكمن فى مقولة التوحيدى: «إن الإنسان أشكل عليه الإنسان»، أى أن الإنسان أصبح مشكلة بالنسبة لنا، كيف نفهمه ونحلل تصرفاته وندرك بواعثه؟، هذا التساؤل يعتبر أكبر دليل على عمق فكر التوحيدى واهتمامه بفهم البواعث الدفينة للشخصية البشرية، وما يحيط بها فى الكون، فهو يطرح الإنسان كمشكلة فلسفية حقيقية، ويذكرنا بعبارة سقراط: «اعرف نفسك بنفسك».
أجرى التوحيدى حوارات طويلة ومتنوعة بينه وبين معاصره مسكويه، سُجلت فى كتاب «الهوامل والشوامل»، والهوامل هى رسالة التوحيدى إلى صاحبه مسكويه، أما الشوامل فهى جواب الأخير على ملاحظات التوحيدى، فالكتاب جمع رسائلهما المتبادلة التى ناقشا وجادلا فيها الرؤية المعرفية فى التعامل مع الوجود البشرى من باب نسبية الحقائق، ومن باب التكامل بين الحضارات والاجتهادات البشرية، هكذا كان التوحيدى يركز على الإنسان وهمومه ومشاكله، وهذا لا يعنى أنه مادى ملحد أو مهمل للجانب الروحى، بل على العكس تماما، كان روحانيا كبيرا، وأكبر دليل على ذلك كتابه: «الإشارات الإلهية».
طرح المفكران أسئلة تقارن بين ثنائيات متضادة يصادفها الإنسان فى حياته، كالمقارنة بين الشباب والكهولة التى تعبر عن قلق الإنسان من الفناء ورغبته بالبقاء، وموضوعات متناقضة تتعلق بالإنسان مثل: الحياة والموت...، ومقاربة مفهومى التأنيث والتذكير فى مسألة تأنيث الشمس وتذكير القمر، ليطرح تناوب المذكر والمؤنث فى الخلق والأدوار المسندة لكل منهما، وماهية الظلم، وهل مصدره الطبيعة أم الإنسان نفسه؟ ولماذا يحب البشر الرئاسة، ويبالغون فى طلبها ويحاربون لأجلها؟ وسؤال حول سبب ألم الطفل...إلخ، ومن هذه التساؤلات نستشف أن أفكارهما تطرح همومًا إنسانية مشتركة بين كافة الناس فلسفيًا ووجوديًا، بعيدة عن أى فكر عقائدى يُثير تعصبًا أو تميزًا بين الناس من شأنه خلق عدواة، بل على العكس تُقدم النزعة بكل أفكارها تقاربًا بين الناس، فتجعلهم متسامحين ومتحابين ومتقاربين، لأنها تشعرهم بأنهم فى الهم سواء فى الدنيا والآخرة.
• • •
وعلى عكس ما توقع أركون بأن عودة العرب إلى مفاهيم الأنسنة من تسامح وأخوة بين البشر بكل عقائدهم وأجناسهم ومذاهبهم مستحيلة فى ظروفهم الراهنة، تُفَاجِئُنا الفعاليات والمهرجانات الثقافية والرياضية، والأحداث السياسية المرافقة لمونديال 2022 فى قطر بإشاراتها الواضحة لبداية عودة مفاهيم «الأنسنة» لصاحبيها مسكويه والتوحيدي؛ وكما أشرنا فى مقالنا السابق «سقوط وعد بلفور الثانى.. مقدمة لميلاد عالم جديد» (1/11/2022) بأن العالم أصبح على أعتاب عصر جديد، ليُعلن سقوط حضارة الغرب التى عرَّت نفسها بتناقضاتها وازدواجية معايرها، ودعمها للانحلال الخلقى والشذوذ الجنسى، وخرقها للقوانين، وتدميرها لحقوق الإنسان، وإفسادها لمناخ وطبيعة الأرض!
وتصديقًا لقولنا، نشاهد وزيرة الداخلية الألمانية تُخفى شارة «حب واحد» (للمثليين) قبل دخولها المدرجات، ثم تكشف عنها بعد دخولها، فهى بذلك خدعت المسئولين عن التنظيم، وكسرت القوانين التى صدعوا رءوسنا بها، علمًا بأنها كوزيرة داخلية منوطة بالحفاظ على تطبيق القوانين، وتخطو خطاها وزيرة الخارجية البلجيكية، ثم تأتى بعدهما وزيرة الرياضة الفرنسية لتُحرّض منتخب بلادها للانسحاب من البطولة لعدم دعم البلد المضيف لمجتمع الميم، أليست هذه ازدواجية فاضحة، وإصرار على نشر الرذيلة؟ أليس هذا ما تنبأ به الفيلسوف الألمانى أوسفالد شبينغلر (1880ــ1936) Oswald Spengler فى كتابه الشهير «اضمحلال الغرب» حيث أوضح أن كل حضارة لا شك آفِلَة بعد بلوغ ذروة عظمتها التى تقودها للتحلل، والذى أثبتته بالواقع وزيرات الداخلية والخارجية والرياضة فى أكبر دول أوروبية!
وفى المقابل، شهد حفل افتتاح المونديال فى قطر لوحة فنية باسم «لتعارفوا» لتسليط الضوء على ضرورة تقبل قيم الآخر، والتكامل بين جميع الشعوب، كما تصدرت الافتتاحية حوارا حول تصحيح المفاهيم المغلوطة وازدواجية المعايير دار بين النجم الأمريكى مورجان فريمان وشاب قطرى من ذوى الهمم، أكدا فيه على أهمية حوار الحضارات، مهما اختلفت الثقافات بين الشعوب، وعبَّر الشاب القطرى عن حضارته العربية التى تدعو للتسامح بالآية القرآنية: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، والآية لا تخلو من رسالة واضحة مفادها أن الأصل فى الزواج يكون بين رجل وامرأة، فتلك هى الفطرة السليمة، حيث زوّج الله آدم بحواء، وأن دعوة البعض إلى زواج الرجل من الرجل، أو المرأة من المرأة أمر ترفضه الشرائع السماوية وتعارضه ذوو الفطرة السليمة!
وخلاصة القول إن بطولة كأس العالم 2022 فى قطر استثنائية بكل المقاييس، فهى لأول مرة تُقام فى فصل الخريف بدلا من الصيف، ولأول مرة تنظمها دولة عربية، ولأول مرة تنفضح فيها جليًا ازدواجية المعايير الغربية، ولأول مرة نرى فيها دولّا غربية تنادى بمقاطعة البطولة دعمًا للشذوذ الجنسى والانحراف الأخلاقى (فرنسا وبريطانيا)، إنها الحضارة الغربية الآيلة للسقوط لأنها كما أفسدت طبيعة الأرض ومناخها، تريد إفساد الطبيعة البشرية الراسخة فى تاريخ البشرية، ولأول مرة تنعقد فيها مقابلات ومصالحات سياسية (مصر وتركيا)، ولأول مرة تظهر فيها القيَم العربية والإسلامية الأصيلة التى شوهها العرب والمسلمون بأنفسهم لعقود طويلة، إنها بحق بطولة كروية تميَّزت بـ«الفروسية» و«الأنسنة» العربية!
حفظ الله الوطن العربى بكل معتقداته الإسلامية والمسيحية واليهودية وأعاد له أمجاده.