أرادت البنتُ أن تدخلَ ملاعبَ الأطفالِ فى النادى؛ لكنّ الأمَ أرجأت الأمرَ قليلًا. انفجر البكاءُ والصُّراخ، فأعلنت الأمُ غضبَها، بينما تعاطف أغلبُ المَارة وأعلنَ بعضُهم استياءَه. اللافتُ كان إصرارَ الطَّرفَين على مَوقفيهما؛ البنتُ لا تكفُّ ولا تكتفى، والأمُّ تُصرُّ على قرارِها وتؤكد لها أن استخدامَ البُكاءِ لتحقيقِ مآربها لن يفلح.
• • •
الباكى فى قواميس اللغة العربيَّة هو من سَال دَمعه، الفعلُ بكى والبُكاء مصدر، وإذا أمطرت السماء قيل إنها بَكتَ، أما البَكَّاء بفتح الباء وتشديد الكافِ فصيغةُ مُبالغة تفيد كثرةَ البُكاء. نادرًا ما نستخدم فى كلامنا فعل بكى، غالبًا ما نقول عَيَّط وهى مُفرَدة من العربيَّة الفُصحى، توردها المَعاجمُ بمعنى صَاحَ ومدَّ صوتُه وصَرخ.
• • •
قديمًا رَثَت الخنساءُ أخيها بقصيدة مُفتتحها: أعينى جودا ولا تجمُدا.. ألا تبكيان لصَخر النَّدى؟ والأمر حثُّ للذاتِ على التعبيرِ عن المشاعر الجائشة إزاء فاجعةِ المَوت؛ فمِن الصَّدمات ما يَسحقُ المرءَ ويُعجِزه عن الاستيعاب ومِن ثمّ يُصيبه بالجُّمود. على صعيد آخر أنشد أبو العلاء فى رسالة الغفران: أبكت تلكم الحمامة أم .. غنَّت على فرعِ غُصنِها الميَّاد؟ والاستفهام مُسائلة للوجُود وإشارةٌ لعدميته كعادة الشعراء الفلاسفة؛ فغناءٌ مثل بكاءٌ وأبيضٌ مثل أسوَد، أما عن امرؤ القيس فهو صاحب: قفا نبكِ ذكرى حبيبٍ ومَنزل، وهى بكائيةٌ وضعَها بعد تركه مَحبوبَته. عُرِف الأقدمون بالصَلابةٍ والبأس؛ مع هذا احتلَّ البكاءُ مكانةً بارزةً فى الشِّعر العَربى، والحقُّ أن فيضانَ المشاعر لا يُعدُّ ضعفًا ولا يُشين صاحبَه، مثلما أن إظهارَ القساوةِ لا يَعكس صَلابةَ الشخصِ أو قوته.
• • •
«يا بخت مَن بكَّانى وبكى معايا ولا ضحَّكنى وضحَّك الناس عليّا». سَمِعت المثلَ من جدَّتى كثيرًا، والقَّصد أن الإخلاصَ للصاحب يكمُن فى مُواجهته بالحقيقة؛ لا فى إخفائِها أو تجميلها، ولا شكَّ أن المَعرِفةَ وإن كانت قاسيةً مُوجِعة؛ طريقٌ لإصلاحِ المَعطوب والعكسُ سليم.
• • •
أذكر مِن بين الحكاياتِ التى تخصُّ جدَّتى؛ أنها كانت تبكى طويلًا فى دار السينما كلَّما شاهدت فيلمًا عاطفيًا ذا نهاية مأساوية مُؤثرة، وأنها لم تغادر مَقعدها بعد انتهاءِ الفيلمين الشَّهيرين «قصة حُب» لآرثر هيللر، و«حبيبى دائمًا» لحسين كمال، لأنها لم تتمكَّن من إيقاف انهمار دموعها لدقائق. فارقٌ شاسعٌ ما بين اليومِ وأمس؛ فالواقع بات أنكى قسوةً مِن كلّ خيال، اختفى مُرهفو الحِسّ، ولم يَعد البكاءُ واردًا فى دارِ سينما أو مَسرح؛ بل أن باكيًا فى أحدِهما قد يستثير وابلَ سُخريةٍ وضَحك من أغلب الحضور.
• • •
بعضُ الأحيان تجفُّ الأعين ويتعذَّر إفرازُ الدَّمع، وتلك حالٌ مَرَضِيَّة يمكن التغلُّب عليها بقطراتٍ مُرطِبة تعوض شُحَّ السائلِ الطبيعى. فى أحيان أخرى يمتنع الدَّمع بسبب الحال النفسيَّة لا العضوية؛ إذ تتخطى المعاناةُ قدرة الإنسانِ على التعبير بالبكاء. تتمزَّق الأحشاءَ بينما الوجه هادئ، فلا الملامح تتقلَّص ولا نَمط التنفُّس يتغيَّر. يتغلب الكتمانُ على البَوح ويكون الأثرُ أمضى، ورغم أن الأمثولة تقول: كثرةَ الحِزن تعلم البكا؛ فإن الحِزن المُقيمَ غالبًا ما يُروّض المشاعرَ الحادةَ ويُهدئها، وربما يُصيبُ المرءَ بعد فترة بالتبلد إزاءَ الأحداثِ الجِسام. لا يعنى هذا أنه صارَ أقوى وأكثر تحمُّلًا؛ بل أنه لم يعد قادرًا على الاستجابة، يتجمَّد عند حدّ من التفاعل ولا يتمكَّن من تجاوزه، وربما ينسى مع الوقت أن ثمَّة حالًا أخرى مُناقضة للمزاجِ القاتم، وأن فى قاموسِ المشاعر والأحاسيس مكانًا دائمًا للفرح والبهجة.
• • •
يبكى المرءُ فرحًا فى بعض المُناسبات، وفى أخرى غيظًا، قهرًا أو ربما ندمًا. يَحدث أن يطلبَ الواحد رؤيةَ آخر ويُلح طويلًا، فيما الظروفُ تُعطل اللقاء؛ وإذا به يَرحل عن الحياة، ويترك فى قلب مَن عجزَ عن تلبية الطلب غصَّة وحَسرةً، وشعورًا غامرًا بالذنب. تتكرَّر المواقف على هذا المنوال دون أن نأخذَ منها عِظة؛ نتعهَّد بالحِرص فى مَراتٍ قادمة؛ لكن الحياةَ القاسيةَ لا تنفكُّ تمتصُّ عهودَنا وتُبخِرها مع الهواء.
• • •
غنَّت فيروز من كلمات بشارة الخورى: يَبكى ويَضحك لا حزنًا ولا فرحًا.. كعاشقٍ خطَّ سطرًا فى الهوى ومَحا. الخورى مُلقبٌ بالأخطل الصغير لعذوبة نَظمِه، وقد قدمَ الشيخُ زين محمود الأبياتِ ذاتها بنزعَة صُوفيَّة مُكثفة؛ فألهمَها روحًا مُحلِقةً فى مراتب عليا، ووُصِفَ أداؤه بأنه فاقَ الجميع.
• • •
يُوصَف هؤلاءُ الذين يَبكون لأتفه الأسبابِ بأن دَمعتَهم قريبة، تفرُّ من العين سريعًا، وأنهم طيّبون لا يحملون ضغائنَ وسُرعان ما يَنسون الإساءة، وربما أنها تخرجُ من قلوبِهم مع الدَّمع وتسيل؛ فلا يبقى منها شىءٌ فى النُّفوس. الدَمعة بفتح الدال مُفرد وجمعها دَمعات، أما الدِمعة بكَسرِ الدال؛ فكلمة نستخدمها إشارةً للطمَاطِم المَعصُورة التى يتفنَّن الطهاةُ فى إمدادِها بالبُهارات والبَصَل والثوم.
• • •
تبدو قولةُ: «ضَربَنى وبَكى وسَبقنى واشتكى» إيجازًا بليغًا لفنّ استمالةِ الناس وإلهائِهم عن الحقيقة. يصطنع الفاعلُ مَشهدًا زائفًا يظهر فيه مجنيًا عليه، بينما يُشوه صورةَ الضحيَّة ويُلصق بها الجُرم. يتبع العدوُ الرابضُ على حدودنا هذا النهجَ بدقة؛ والمُدهش أن الأنظمة الحاكمة للعالم ترى الضارِبَ وتُشاهد المَضروبَ، وتَعرف يقينًا أن الباكى هو الجانى؛ لكنها تُطيِّب خاطرَه وتُساعِده على مُواصَلة الضَّرب، واللومُ يقع فى المَقام الأول على المُحيطِ القَّريب الذى تخاذلَ وتقاعَس وأشاح بوجهِه بعيدًا وترك واجبَه؛ إلى أن اقترب منه الخطر بدرجةٍ غير مَسبوقة.