الإصلاح الاقتصادى بدون ألم - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإصلاح الاقتصادى بدون ألم

نشر فى : الأحد 7 فبراير 2016 - 10:45 م | آخر تحديث : الأحد 7 فبراير 2016 - 10:47 م
لاشك أن قضية الإصلاح الاقتصادى فى مصر تمثل أزمة، بالنسبة للشعب أولا الذى تعانى أغلبيته من تدهور أحوال الاقتصاد، الذى ينعكس فى إنتشار الفقر واتساع نطاق العمل غير المنتظم الذى يلجأ إليه كثيرون هربا من البطالة الصريحة فضلا عن تردى أوضاع الخدمات الأساسية فى مرافق المياه والمواصلات والتعليم والصحة، كما أنه بكل تأكيد أزمة للحكومة التى تعانى العجز فى موازنتها، ولا تقدر على توفير مرتبات وأجور مناسبة للعاملين فيها، مما يؤدى إلى انخفاض معنوياتهم، وقلة حماسهم لعملهم، وهو ما يدفع ثمنه المواطنون. ومع أن الشعب والحكومة متفقان على ضرورة الإصلاح الاقتصادى إلا أنهما يختلفان فى كيفية تحقيقه، وسبب الاختلاف أن الإصلاح الاقتصادى له ثمن، وهو ما تسلم به الحكومة، وما يبدو أن غالبية المواطنين ليسوا على استعداد لقبوله. ولكن الحكومة لم تتوقع أن ينتقل التبرم من الإصلاح الاقتصادى من الشعب إلى مجلس النواب، الذى تشكل وفقا لقانون انتخابى سعى إلى تهميش الأحزاب السياسية، أملا ممن صاغوا هذا القانون ألا تظهر فى المجلس النيابى معارضة تعوق الموافقة على قرارات الحكومة ومشروعات قوانينها، وخصوصا أن أنصار الحكومة فى المجلس ادعوا أنهم يملكون غالبية مريحة تقرب من الثلثين، ولذلك فوجئت الحكومة بأن المجلس الذى وافق على جل ما صدر من قوانين خلال غياب السلطة التشريعية، بما فى ذلك قوانين مشكوك فى دستوريتها ومقيدة للحريات العامة، إلا أن غالبيته اعترضت على قانون الخدمة المدنية، الذى هو ركن أساسى فى برنامج الحكومة للإصلاح الاقتصادى.

ولقد تلقت الحكومة هذا الدرس، ونظرا لأنها تفتقد المهارة السياسية فى إقناع المواطنين بحكمة ما تسعى إلى اتخاذه من إجراءات لتحقيق الإصلاح الاقتصادى كما تراه، فقد راحت تبحث عن سبل تجعلها تمرر ما تريد من تدابير تتعلق بالإصلاح الاقتصادى، بالمخاطرة باحترام الدستور. ليس من الواضح مثلا ما إذا كانت الحكومة ستعرض على المجلس ما أعلنت عنه الصحف أنه قرار بقانون أصدره رئيس الجمهورية بزيادة التعريفة الجمركية على عدد كبير من السلع، وسواء كان ذلك قرارا بقانون، أو ضريبة جديدة تفرضها الحكومة، فلابد فى الحالتين ووفقا للدستور، أن يعرض ذلك على السلطة التشريعية.
  
لا تملك السلطة التنفيذية أن تضع قوانين ولا أن تفرض ضرائب فى وجود السلطة التشريعية دون أن تحصل على موافقتها (مادة 38 من الدستور). كما أشارت الصحف إلى أن الحكومة لن تعرض القروض التى تعقدها مع مؤسسات أجنبية أو دول أخرى على مجلس النواب، وإنما ستكتفى بإصدار الرئيس لها بعد موافقة مجلس الدولة. ولاشك أن ذلك لو صح سيكون بدعة جديدة فى التاريخ السياسى لمصر الحديثة، فالقروض التزامات مالية على الدولة يتحمل عبئها المواطنون، ومن ثم يلزم سياسيا ودستوريا عرضها على ممثلى هؤلاء المواطنين المنتخبين (مادة 127 من الدستور)، ولكن مرة أخرى، وكما كان الحال فى قانون الخدمة المدنية سيئ الحظ، تخشى الحكومة من رفض مجلس النواب لقروض تتضمن شروطا تزيد من معاناة المواطنين، فى الأجل القصير على الأقل. وهذا هو الحال فى القرض الذى تزمع الحكومة الحصول عليه من البنك الدولى، ففى مقابل مليار دولار يقرضها البنك لمصر، يتعين على الحكومة ضغط إجمالى ما تدفعه من أجور كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، وإدخال ضريبة القيمة المضافة، فضلا عن ترشيد دعم المنتجات البترولية، وترجمة ذلك هى الحد من التوظيف فى الجهاز الحكومى وتخفيف العمالة فيه، ورفع أسعار السلع التى تخضع لضريبة القيمة المضافة، بالإضافة إلى رفع أسعار المنتجات البترولية. إذا كان ذلك هو ما تنويه الحكومة فعلا، فليس من المؤكد أن البنك الدولى سيقبل ذلك، لأنه وقد تعلم درس الاحتجاجات الشعبية على برامج التقشف التى يقترحها، أصبح يصر على ضرورة موافقة السلطات النيابية المنتخبة على اتفاقاته مع حكوماتها، كما أن مصير مثل هذه القروض غامض حتى ولو وافق البنك الدولى على تمريرها على هذا النحو، فالطعن على دستوريتها محتمل، ورفضها من المحكمة الدستورية شبه مؤكد لتعارضها الصارخ مع الدستور.

***
ما هو المخرج من هذه الورطة التى نجد أنفسنا فيها شعبا وحكومة؟ هل تفيدنا تجارب دول أخرى بما يمكن عمله فى مثل هذه الحالة؟ الواقع أن هذه مشكلة واجهتها برامج الإصلاح الاقتصادى التى يدعو إليها كل من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى. بل وتجربتنا مع هذه البرامج حاضرة فى الأذهان، فقد أخفقت الحكومة المصرية فى الحصول على مساعدة صندوق النقد لها عندما رفض الشعب المصرى فى انتفاضة يناير 1977 شروط الصندوق التى كانت تتضمن زيادات هائلة فى أسعار العديد من السلع الأساسية مثل السكر والزيت والأرز وغيرها، وهو ما تعلمته الحكومة المصرية بعد ذلك فتوقفت عن إتباع الإصلاح بالعلاج بالصدمة كما كان الحال فى ذلك العام، واستعاضت عنه بالإصلاح التدريجى فى حكومة الدكتور عاطف صدقى( 1987 ــ 1996)، والذى نجحت فيه إلى حد كبير.

تشير التجارب الدولية إلى أنه يمكن تمرير هذا الدواء المر عن طريق أربع سبل محتملة تؤدى بالشعب إلى تحمل مثل هذه الجرعة المؤلمة. أولا أن تتمتع الحكومة بشعبية هائلة تجعل المواطنين يقبلون بسياساتها، ويكون ذلك فى أعقاب انتصار مدو فى الانتخابات تكسب فيه الحكومة أغلبية كاسحة، والسبيل الثانى أن يأتى الإصلاح فى أعقاب إنجاز كبير للحكومة فى سياستها الخارجية ككسبها حربا أو توفيقها فى مفاوضات صعبة تتعلق بمصلحة قومية كبرى، والسبيل الثالث هو توافر الدعم الخارجى الذى يخفف من أعباء الإجراءات التقشفية، والسبيل الرابع أن يكون برنامج الإصلاح فى حد ذاته متوازنا تتشارك جميع الطبقات فى تحمل التزاماته، بل وأن ينطوى أيضا على مكاسب واضحة وملموسة للطبقات الفقيرة.

السبل الثلاث الأولى لا تبدو متاحة أمام الحكومة المصرية فى الوقت الحاضر. لا يبدو أن الحكومة تتمتع بشعبية كبيرة، فهى أولا حكومة غير منتخبة، والأغلبية التى يمكن أن تستند إليها فى مجلس النواب هى أغلبية هشة، وليست مؤكدة، وكانت أقل من نصف النواب عند التصويت على قانون الخدمة المدنية، كما أنه إذا كان هناك إدعاء بأن النواب الذين مازالوا أعضاء ما يسمى بائتلاف فى حب مصر الذى يلتزم بتأييدها قد تمخض عن انتخابات قاطعتها الأغلبية الساحقة من المواطنين، بين أربعة أخماس إلى ثلاثة أرباع من لهم الحق فى التصويت، وقد بين استطلاع الرأى الأخير الذى أجراه مركز بصيرة إلى أن 13% ممن سألهم المركز هم الذين يرون أن أداء رئيس الوزراء الدكتور شريف إسماعيل جيد، ورأى 18% أن أداءه متوسط، وذهب 7% إلى أن أداءه سيئ، ولم يحدد 62% من أفراد العينة موقفا محددا منه. كما لم تحرز الحكومة نصرا فى حرب سواء كانت مع عدو خارجى أو حتى عدو داخلى، وهى بعيدة عن كسب الحرب ضد الإرهاب رغم كثرة وعودها بأن نصرها المبين عليه صار قوب قوسين أو أدنى، وإذا كانت أهم مفاوضات تخوضها فى الوقت الحاضر هى المفاوضات الجارية مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، فقد انتهت كل جولاتها برفض إثيوبيا تقريبا كل المطالب التى طرحتها الحكومة المصرية، كما أنه لا يبدو أن الدول العربية المساندة لمصر، وهى أساسا دول الخليج العربية مستعدة لتقديم المساعدة التى يمكن أن تعوض المصريين عن ارتفاع أسعار السلع الناجم عن الاتفاق مع البنك الدولى.

***
لا يبقى أمام الحكومة المصرية سوى أن تحصل على موافقة الشعب على برنامجها للإصلاح الاقتصادى بأن تخاطبه أولا خطابا عقلانيا سهل الفهم، مدعوما بالطبيعة المتوازنة لهذا البرنامج، والذى يتضمن تدابير ملموسة تخفف عن المواطنين قدرا من شظف العيش بزيادة فى دخول الشرائح الأكثر فقرا، وبمزيد من الإنفاق على الخدمات الأساسية التى يعتمد عليها المواطنون وبتحسين نوعيتها مثل مدهم بمياه الشرب النقية وتحسين المواصلات والتعليم والصحة، وذلك إلى جانب تدابير تقشفية فى مجالات أخرى مثل تقليل الإنفاق على الإعلام الحكومى الذى يعانى من خسائر وتحويل العمالة الزائدة فى بعض المرافق الحكومية. وإن كان كل ذلك غير ممكن لعدم توافر موارد كافية، فليكن التوازن فى برنامج الإصلاح هو من خلال توزيع أعبائه فلا يتحملها الفقراء فقط، فيقترن أيضا بزيادة معدلات الضريبة تصاعديا، أو بفرضها على الأرباح الرأسمالية، وتقليل التفاوت فى المرتبات ومزايا الوظيفة بين جميع فئات العاملين فى الدولة.
بغير هذا التوازن فى برامج الإصلاح الإقتصادى لن يكون هناك أمل فى أن يحظى بموافقة شعبية، ولا أن يقدر له الاستمرار.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، مدير شركاء التنمية
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات