عديدة هى الألغام السياسية التى تعترض تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة بين حماس وإسرائيل، كما أنها ألغام متكاثرة، فلا يكاد يمر يوم دون أن يضع رئيس الوزراء الإسرائيلى ألغاما جديدة على طريق المفاوضات الهادفة إلى ترجمته على أرض الواقع.
المرحلة الأولى التى لم تنته أسابيعها الخمس بعد أن حفلت بانتهاكات إسرائيل لالتزاماتها بوقف إطلاق النار ونفاذ المساعدات. فكم من الفلسطينيين والفلسطينيات لقوا حتفهم أثناء هذه المرحلة ضحية إطلاق النار عليهم من القوات الإسرائيلية التى لم تجل بعد عن كل غزة، كما تعددت الشكاوى من عرقلة إسرائيل لوصول المساعدات، أحيانا بحجة أن جنودها الذين يدققون فى حمولة الشاحنات الداخلة إلى القطاع من معبر رفح لا يعملون يومى الجمعة والسبت من كل أسبوع، وأحيانا أخرى وهذه مشكلة مستمرة لأن السلطات الإسرائيلية لا تريد دخول المساكن المتنقلة ولا المعدات الثقيلة من جرافات وغيرها من المعدات الضرورية لإزالة ركام المبانى التى دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية، وهو أمر لازم لسهولة إيصال المساعدات وللتمهيد للإعمار، وقد ردت حركة حماس على هذه الانتهاكات وتلك المماطلة بتأجيلها تسليم ثلاث من الرهائن وثلاثة من جثامين أسرة إسرائيلية أسرتها يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، واقتضى ذلك تهديدات من كل من رئيس الوزراء الإسرائيلى باستئناف الحرب ومن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بأنه سيحول غزة إلى قطعة من الجحيم ما لم يتم إطلاق سراح كل الأسرى الإسرائيليين من جانب حماس يوم السبت الماضى.
أطلقت حماس الأسرى الثلاث وأعادت لإسرائيل ثلاثة جثامين، ولكن خطأ غير مقصود من جانب مقاتلى حماس أدى إلى تسليم جسد فلسطينية لقيت حتفها فى هذه الحرب بدلا من جسد الإسرائيلية والدة الرضيعين اللذين أعادت جثمانيهما. وهنا وجد رئيس الوزراء الإسرائيلى فرصة كان يتحينها لإطلاق تهديداته من جديد باستئناف الحرب، ثم سلمت حماس جسد الإسرائيلية بعد أن تم التعرف عليها وسط بقايا ضحايا فلسطينيات أودت بحياتهن معها الغارات الإسرائيلية. طبعا أنكر رئيس الوزراء الإسرائيلى ومعه المتحدث العسكرى الإسرائيلى أن الأسرة الإسرائيلية كانت ضحية المدفعية الإسرائيلية وفق ما ذكرته حماس وأيده أفراد الأسرة الإسرائيلية.
الانتقال إلى المرحلة الثانية لغم آخر
بعد أن أوشكت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار على الانتهاء حاول رئيس الوزراء الإسرائيلى تجنب البدء فى المرحلة الثانية تحت ذرائع مختلفة، أسباب تردده معروفة. فهو مازال متعلقا بأوهامه فى تحقيق نصر كامل لم يحصل عليه طوال الشهور الخمسة عشر التى استغرقتها هذه الحرب. هو لم ينجح فى القضاء الكامل على حركة حماس التى أظهرت أنها باقية بقوة من خلال إدارتها للجزء المحرر من القطاع وحمايتها لقوافل المساعدات من السرقات وتوفيرها للأمن ونجاحها فى تنظيم تسليم الأسرى بانضباط كامل ومع وجود أعداد كبيرة من مقاتليها بزيهم العسكرى وعرباتهم وأسلحتهم التى حصلت عليها من القوات الإسرائيلية، كما أن استعادة الأسرى الإسرائيليين كانت من خلال التفاوض وليس من خلال الحرب.
سبب آخر لمماطلته فى البدء فى مفاوضات المرحلة الثانية أنه مع شركائه فى الحكومة - وخصوصا وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش والوزير السابق للأمن إيتمار بن جفير - يريدون الاستمرار فى الحرب وتهجير سكان غزة وتحويل القطاع إلى مستوطنات إسرائيلية.. وبعد أن اضطر لقبول الدخول فيها تحت ضغط أسر الأسرى الإسرائيليين الذين مازالوا فى غزة والذين يؤيدهم قسم هام من الرأى العام الإسرائيلى، وتحت إلحاح من جانب مبعوث الرئيس الأمريكى ستيف ويتكوف الذى لا يريد استئناف الحرب، والتى اعتبر وقفها نجاحا له حتى قبل أن يدخل البيت الأبيض، فقد غير الوفد المفاوض الذى كان يضم رئيسى الموساد والشاباك، ووضع على رأسه صديقا له هو وزير الشئون الاستراتيجية رون ديرمر، ثم بادر بطرح حجة عجيبة وهى أن المرحلة الثانية لن تتم إلا بعد انسحاب حماس تماما من غزة، وهى سابقة لم تشهدها أى مفاوضات دولية من قبل، وهى أن يطلب أحد المفاوضين حتى ولو كانت مفاوضات غير مباشرة، أنه لن يقبل إتمامها إلا إذا انسحب الطرف المقابل له. فكيف يتصور أن هذا الطرف سيقبل التزاماته بموجب هذه المفاوضات إذا كان ذلك سيصحبه اختفاؤه تماما ليس من المسرح العسكرى وحده، ولكن من المسرح السياسى كذلك؟
اللغم الأخطر بقاء حماس فى غزة
يشجع نتنياهو على طرح هذا الشرط، والذى بكل تأكيد لن يؤدى إلى وقف مفاوضات المرحلة الثانية التى يصر عليها الوسطاء الثلاث فيها، أنه مطلب يلقى تأييدا ليس من الولايات المتحدة وحدها ولكنه يكاد يكون مطلب معظم الحكومات العربية، بل إن كبار المسئولين فى جامعة الدول العربية يلتقون معه فى هذه الرغبة كما عبرت عن ذلك تصريحات علنية، وتعليقات إعلامية من الشبكات والصحف المعبرة عن مواقف هذه الحكومات.
دوافع الإجماع على هذا المطلب متباينة. الحكومتان الإسرائيلية والأمريكية لا تريدان بقاء أى مقاومة مسلحة فلسطينية لا فى غزة ولا فى الضفة الغربية. الحكومات العربية لا ترحب بالمثل الذى ضربته حماس كحركة مقاومة مسلحة، ومعظمها لا يتحمل وجود أى معارضة، سلمية أو مسلحة، وهى لهذا السبب لا تبالى أن تمنح إسرائيل نصرا على مائدة المفاوضات لم تنجح فى الوصول إليه بعد خمسة عشر شهرا من الحرب الضروس.
يغيب ربما عن هذه الحكومات أنه مطلب غير واقعى. صحيح أن حركة حماس تخلت عن انفرادها بحكم غزة بعد انتهاء الاحتلال، وتقبلت المقترح المصرى أن تدير غزة لجنة إسناد تتوافق عليها حماس مع السلطة الفلسطينية التى لا وجود لها على أرض الواقع فى غزة، ولكن لم تقبل حركة حماس أن تلقى سلاحها لمجرد انسحاب القوات الإسرائيلية وراء حدود القطاع، فلا تملك الحكومات العربية أن تثنيها عن ذلك، بل الأخطر من ذلك أن النص على وقف الحصار عن قطاع غزة لم يرد فى النص النهائى لاتفاق وقف إطلاق النار الذى وافقت عليه إسرائيل، وهكذا فالمطلوب من حماس هو انتهاء وجودها فى قطاع غزة، رغم عدم وجود ضمانات بعدم عودة الاحتلال الإسرائيلى ولا وقف الحصار الذى تفرضه إسرائيل على القطاع برا وبحرا وجوا، وهو ما حوله إلى أكبر سجن فى العالم.
كما يسكت من يروجون لهذا الاقتراح عن كيفية إنهاء وجود حماس فى غزة. قادتها يرفضون ذلك بل ولا يقبلون مجرد الحديث عنه. ومن السخف أن ينقل لهم أحد اقتراح رئيس الوزراء الإسرائيلى بأن إسرائيل ستضمن خروجهم أحياء من القطاع إلى أى مكان آخر، فليكن تركيا مثلا أو قطر كما فعلت عندما سمحت لياسر عرفات بالخروج من بيروت المحاصرة بحرا إلى تونس فى صيف ١٩٨٢. موقف حماس مختلف. بيروت استضافت المقاومة الفلسطينية ولم يكن كل الشعب اللبنانى مرحبا بوجودها، وخروج ياسر عرفات كان لاستئناف النضال للعودة إلى فلسطين، هو ما فعل بعدها باثنتى عشرة سنة. ولكن غزة هى أرض فلسطين وهى أرض حماس ثم لا يجرؤ أى من أنصار هذا الاقتراح بأن يشرح كيف سيتم نزع سلاح حماس سواء وافق قادتها على هذا الاقتراح أو لم يقبلوه.
لا أظن أن أى حكومة عربية ستقبل أن تكون مشاركة فى أى عمل يستهدف نزع سلاح حماس، هى مخاطرة جازفة لأى حكومة عربية تنوب عن إسرائيل فى هذا العمل، وهو خطيئة لا تغتفر من جانب الحكومة فى مواجهة قطاعات كبيرة من الرأى العام العربى.
اللغم الأخير.. إعمار غزة
لا يقلل من صعوبة هذا اللغم الأخير أن الرئيس الأمريكى قد تراجع عن اقتراحه بتهجير الفلسطينيين والفلسطينيات من غزة إلى الأبد ليفسحوا المجال لوهم تحويلها إلى منتجع سياحى كبير على شاطئ البحر المتوسط، وهو ما كان يحلم به جاريد كوشنر زوج ابنته الذى كان أول من أفصح عنه فى محاضرة له، يؤسفنى أنه ألقاها فى جامعة هارفارد العريقة. وأرجع الرئيس الأمريكى تراجعه إلى عدم ترحيب الحكومتين المصرية والأردنية به، وهما ما كان يقترح أن تستضيفا مليونى وثمانمائة ألف من فلسطينيى غزة.
تعد الحكومة المصرية مشروعا بديلا، وأتمنى أن تشرك فيه عقول مصر من أساتذة التخطيط العمرانى والعمارة فى الجامعات المصرية، وأن تستفيد من اجتهادات الراحل حسن فتحى فى العمارة للفقراء والتى كانت موضع الاقتداء والتقدير فى دول عديدة. لا توجد صعوبة فنية أن يتم الإعمار مع وجود الفلسطينيين فى القطاع، فيمكن أن تتوافر لهم أماكن آمنة يقيمون فيها مؤقتا حين إعمار المناطق التى سيقيمون فيها على نحو دائم. ربما تكون أخف العقبات هى التمويل الذى قدرته الحكومة المصرية فى المرحلة الأولى بعشرين مليار دولار، وقدرته الأمم المتحدة كتكلفة كلية بثلاثة وخمسين مليار دولار. فى الدول العربية ما يغطى هذه التكلفة ويفوق ذلك، ولكن الذين يرغبون فى المساهمة فى إعمار غزة لهم شروطهم، وهى ليست فقط شروطا مالية بل هى سياسية فى المحل الأول، وهل ستترك لهم إسرائيل والولايات المتحدة وشركاتهما الحرية فى أن يفعلوا ما يشاءون، أو الأمن الضرورى لقيامهم بعملهم المأمول.
هذه بعض الألغام التى تسمح بها هذه المساحة، ولنا العودة لمناقشة ألغام أخرى قد توجد، وللحديث حول كيف يمكن للعرب نزع هذه الألغام إذا ما توفرت الإرادة.