‎فى مواجهة النكبة الثالثة.. الحكومات العربية ما بين المهادنة والعزوف عن المقاومة - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الثلاثاء 25 مارس 2025 7:04 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

‎فى مواجهة النكبة الثالثة.. الحكومات العربية ما بين المهادنة والعزوف عن المقاومة

نشر فى : الأحد 23 مارس 2025 - 7:30 م | آخر تحديث : الأحد 23 مارس 2025 - 7:30 م

ليس من المبالغة وصف ما تقوم به آلة الحرب الإسرائيلية فى المشرق العربى بأنه النكبة العربية الثالثة: تحضير دموى من جانب إسرائيل لضم كل من الضفة الغربية وغزة للمساحات التى سيطرت عليها من أراضى فلسطين التاريخية، ومن توسع سيطرتها على قسم كبير من الأراضى السورية انطلاقا من الجولان المحتل، وتمسك بالبقاء فى نقاط عديدة داخل لبنان ، ثم دعوات صريحة لتقسيم سوريا على أساس طائفى، وترديد ادعاءات بأن حدود إسرائيل التاريخية التى يباركها كتاب مقدس تمتد من النيل إلى الفرات شاملة أراضى فى العراق وفى المملكة العربية السعودية. هذا هو الواقع الملموس الذى تقذفه فى وجوهنا مطالعة الصحف فى الصباح، وتواصله قنوات التلفزيون وشبكات الأنباء الأخرى طوال الوقت صبحا ومساء.

‎العجيب أنه بينما كانت هناك إرادة عربية تصدت فى 1947-1948 لبداية تبلور المشروع الصهيونى بإقامة دولة إسرائيل، والذى سجل النكبة العربية الأولى، ورفض العرب فى الخرطوم فى أغسطس 1967 نتائج النكبة الثانية فى حرب يونيو قبلها بشهرين، بل وقدموا الدعم المالى والعسكرى لدول المواجهة التى أصرت على تصفية آثار تلك الحرب، فبالمقارنة بموقف العرب شعوبا وحكومات وقت هاتين النكبتين، يواصل المشروع الصهيونى تعميق نكبة العرب الثالثة، ولا يجد منهم إلا إصرارا على مهادنته، وعزوفا عن التفكير فى المقاومة، بل واستهزاء بمن يدعو إلى هذه المقاومة باعتباره ساذجا أو مقامرا بحياة ومصالح الشعوب العربية، ويتساءل هذه المقال عن منطلقات موقف المهادنة هذا وما إذا كان يعد بأن يصل إلى بعض مبتغاه؟ ويستكمل ذلك باستعراض صور المقاومة التى يمكن للعرب أو بعضهم استخدامها إذا ما توفرت لديهم مثل هذه الإرادة.

منطق المهادنة

‎يتمثل الموقف المهادن للمشروع الصهيونى فى الجهود التى بذلتها الحكومات العربية منذ مؤتمر القمة فى بيروت فى 2002 والذى أعلن مبادرة السلام العربية فهو لا يعلن الحرب على إسرائيل، بل يسعى إلى إقناع قادتها بأن مبادلة الأرض العربية المحتلة بسلام كامل ينطوى على إقامة علاقات متعددة المجالات معها هو فى مصلحة إسرائيل كما أنه فى مصلحة الشعوب العربية، ونظرا لأن قادة إسرائيل لم يقبلوا بهذا العرض السخى من جانب الحكومات العربية فقد سعت هذه الحكومات باتصالاتها الثنائية والجماعية لإقناع ما تسميه بالمجتمع الدولى، قاصدين بذلك الدول الغربية المساندة لإسرائيل وفى مقدمتها الولايات المتحدة بهذه المبادرة، وأملا منها أن تقوم الأخيرة بممارسة الضغط على الحكومة الإسرائيلية لحثها على قبول هذه المبادرة.

‎تعكس محاولات الحكومات العربية للتعامل مع الموجة الجديدة من العدوانية الإسرائيلية منذ أكتوبر 2023 نفس المنطق. وأبلغ تعبير عنه هو ما تقوم به الحكومتان المصرية والقطرية من وساطة بين حركة حماس وإسرائيل  وبمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية. وآخر تعبير عن هذا المنطق هو خطة إعمار غزة التى كانت مقترحا مصريا وافقت عليه القمة العربية منذ أسابيع ولقى تأييدا من منظمة التعاون الإسلامى ومن أربع دول أوروبية هى المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا. صحيح أن خطة الإعمار لا تتماشى مع شطحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بتهجير الفلسطينيين والفلسطينيات من غزة  وتحويلها لمنتجع سياحى، ولكنها من ناحية أخرى هى استجابة لدعوته بتقديم بديل يقبله، وتأمل الحكومات العربية أن تنجح فى إقناع الإدارة الأمريكية بهذه الخطة، وذلك ضمن مقترح أوسع يشمل استكمال الانسحاب الإسرائيلى من غزة فى مرحلة ثانية من اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل ويكون تنفيذ خطة الإعمار هو المرحلة الثالثة فى إطار الانطلاق إلى تسوية شاملة للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين.

‎من المعروف للقراء أن الآمال العربية المعلقة على هذه الخطة قد تلاشت مع مماطلة الحكومة الإسرائيلية فى الانطلاق إلى المرحلة الثانية بل واستئنافها الحرب الوحشية على قطاع غزة وعدولها عن استمرار تنفيذ سائر التزاماتها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار؛ مثل الانسحاب من ممر نتساريم والسماح بمرور المساعدات الغذائية والدوائية والمياه إلى سكان القطاع المحاصر، بل شرعت فى عملية برية لتثبيت وجودها العسكرى فى قلب القطاع وإجبار الفلسطينيين والفلسطينيات من جديد على إخلاء مناطق فى شماله وحصرهم فى جنوبه بل والإعلان عن السعى لتهجيرهم مثلما تمارس مع أشقائهم وشقيقاتهم فى الضفة الغربية.

‎ليس من المدهش أن تخفق جهود المهادنة والتى تسعى لتسوية سلمية لقضية الشعب الفلسطينى، فالشروط المطلوبة لتحقيق مثل هذه التسوية لا تتوافر فى ظرف المواجهة الشرسة بين إسرائيل والمواطنين الفلسطينيين العزل والمحاصرين فى الضفة وغزة، بل ولا تتوافر فى الإطار الأوسع لمواجهة إسرائيلية عربية. تشمل هذه الشروط قناعة أطراف النزاع بأن استمرار الحرب ليس فى صالح أى منهم، وأن تكون هناك ضمانات دولية لإعمال التسوية. قيادة اليمين المتطرف فى إسرائيل تعلن أن الحرب على الفلسطينيين والعرب فى لبنان وسوريا هى ما يحقق مرحلة جديدة فى تنفيذ المشروع الصهيونى. كما أن الطرف الدولى الذى تأمل الحكومات العربية أن يكون ضامنا للتسوية أعلن على لسان الرئيس الأمريكى ومبعوثه للشرق الأوسط تأييده الكامل لما تقوم به إسرائيل. ونظرا لفائض القوة الذى تتمتع به إسرائيل علميا وتكنولوجيا وعسكريا، ولتركيبة الإدارة الأمريكية التى لا يكاد يوجد فيها صوت واحد يبتعد عن الرؤية الإسرائيلية، فلا ينتظر أن تتوافر شروط تسوية سلمية بين إسرائيل والجانب الفلسطينى، ولا أن تنجح سياسة المهادنة التى التزمت بها الحكومات العربية المعنية بتطورات الصراع الفلسطينى الإسرائيلى.

لماذا تغيب الرغبة فى المقاومة؟

‎على الرغم من اتضاح الخطر الذى تمثله مخططات الحكومة الإسرائيلية سواء بتهجير سكان القطاع إلى دول عربية مجاورة تحديدا مصر والأردن، وتوسع احتلالها لأراض سورية ولبنانية، وامتداد أطماع قياداتها إلى أراض عربية أخرى، وحديث رئيس الوزراء الإسرائيلى عن شرق أوسط جديد تختفى فيه الكيانات التى رسمها اتفاق سايكس بيكو لتحل محلها كيانات أصغر تقوم على أساس طائفى، اختفت من الخطاب العربى الرسمى أى دعوة لمقاومة هذا المشروع الذى يهدد الوحدة الإقليمية للدول العربية، واستقرارها الاجتماعى والسياسى وتطلعها المشروع للعيش فى إقليمها بسلام، بل تتكرر على العكس فى كتابات وتصريحات عبر الصحف والإذاعات وقنوات التلفزيون مقولات الاستهزاء بالمقاومة بكافة صورها وتسفيهها وتصوير من رفعوا راية المقاومة فى الماضى القريب وفى السنوات الأخيرة سواء كان جمال عبد الناصر فى مصر، أو حماس فى فلسطين، أو حزب الله فى لبنان، بأنهم هم سبب كل ما يعانيه العرب أو بعضهم من استمرار الاحتلال الإسرائيلى لأراضيهم أو تعثر جهود التنمية أو اشتداد التوتر فى العلاقات مع إسرائيل، وتغفل هذه الأصوات أن المقاومة هى النتيجة الحتمية للاستعمار الاستيطانى العنصرى الذى تجسده إسرائيل.

‎من ناحية أخرى، لم تتخل كل القيادات العربية عن توهمها أن إدارة ترامب ستكون أقرب للاستجابة لوجهة نظرها سواء اعتقادا بأن العلاقات الشخصية معه ستكون أفضل من العلاقات مع الإدارة الديمقراطية التى سبقته، أو لأنه لا يقيم للديمقراطية وحقوق الإنسان وزنا فى سياسته الخارجية، أو لأنه سيكون أكثر حزما فى التعامل مع خصوم هذه القيادات إقليميا أو محليا مثل إيران أو الحركات الإسلامية. يضاف إلى ذلك انشغال كل هذه القيادات بمشروعات قطرية تتراوح بين تأكيد سلطة الدولة فى بلاد استعرت فيها النزاعات الطائفية أو لم تخمد نيرانها بعد، وتعزيز النفوذ الإقليمى والعالمى لدول أتاحت لها ثروتها النفطية موارد هائلة رفعت من أسهمها على مسرح السياسة الدولية. ولكن يغيب فى الوطن العربى فى الوقت الحاضر مشروع قومى عربى تتبناه قيادات تجد مصلحة دولها فى تعميق التضامن العربى ومكافحة من يمثلون خطرا وجوديا على شعوبه ووحدة أراضى دوله.

هل من سبيل للمقاومة؟

‎العجيب فى ظل ظروف النكبة العربية الثالثة أن أدوات مقاومة المشروع الصهيونى قائمة، وأن عددا من الدول العربية هى فى وضع أفضل مما كانت عليه وقت النكبة العربية الأولى. هى على الأقل تتمتع بالاستقلال السياسى ولا تخضع للاحتلال العسكرى مثلما كان حال معظمها فى 1948. وهى تملك حرية أوسع فى رسم سياساتها الخارجية، وبعضها يحظى بموارد فى الطاقة والمال تعطيها حضورا ونفوذا وكلمة مسموعة فى دوائر صنع القرار على مستوى العالم. وليس المقصود بالمقاومة شن الحروب مع الاعتراف بأن المقاومة المسلحة حق مشروع لكل الشعوب التى تقع تحت الاحتلال الأجنبى. إحدى صور المقاومة هى وقف التعامل مع العدو الصهيونى فى الوقت الذى لا يكف عن التراجع عن اتفاقات عسكرية وأمنية وقعها مع حكومات عربية، ولا يكف عن التهديد بنقل أزمات احتلاله إليها بتهجير ضحايا هذا الاحتلال إلى أراضيها، بينما هى تكافئه باستمرار العلاقات الاقتصادية معه بما يعود عليه بالنفع.

‎صورة ثانية للمقاومة هى بوقف التطبيع الدبلوماسى والاقتصادى والأمنى وتسهيل عبور تجارة وطائرات العدو الصهيونى من جانب دول لم تضطر للدخول فى اتفاقيات تطبيع معه ثمنا لجلائه عن أراضيها التى احتلها فى السابق. صورة ثالثة هى التمهل فى إغداق الاستثمارات على الدول التى تقف وحدها فى العالم مناصرة وداعمة للمشروع الصهيونى الاستعمارى العنصرى.

‎صورة رابعة هى الوقوف مع الحكومات التى ناصرت حق الشعب الفلسطينى برفع دعاوى أمام المنظمات القضائية الدولية لمحاكمته على جرائم الحرب والإبادة الجماعية التى ارتكبتها إزاء هذا الشعب.

‎صورة خامسة هى تكثيف المعونات الغذائية والدوائية والصحية وغيرها للشعب الفلسطينى وابتكار الوسائل التى تتحدى الحصار الذى يفرضه عليه المحتل الإسرائيلى.

‎ليست هذه بكل تأكيد صور المقاومة المشروعة للشعب الفلسطينى، وسوف يكون لها أثرها فى جعل قادة إسرائيل ومن يناصرونها يدركون أن هناك ثمنا يدفعونه لاستمرار عدوانهم على الشعب الفلسطينى أو تأييد هذا العدوان.‎

 

 

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات