بعض الغيبيات حقيقة لا يختلف عليها لا المؤمنون ولا الملحدون، ولا فى الشرق ولا فى الغرب، ومن أهم هذه الغيبيات التى لا خلاف عليها: الأحلام وتوارد الخواطر.
تُعتبر رؤيا النبى إبراهيم عليه السلام عندما رأى فى منامه أنه يؤمر بذبح أول أبنائه إسماعيل عليه السلام من أشهر الأحلام التى عُرفت فى تاريخ الأديان، ومن المعروف أن رؤى الأنبياء وحى من الله تعالى، فكانت هذه الرؤيا اختبارا لإبراهيم بأن يذبح الأب ولده العزيز على قلبه إسماعيل (عليهما السلام)، أول أبنائه الذى رزقه به الله بعد بلوغه سن السادسة والثمانين، وقد سارع إبراهيم إلى طاعة ربه، وامتثل لأوامره بذبح ابنه كما ورد فى قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْى قَالَ يَا بُنَى إِنِّى أَرَىٰ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»، ولكن الله افتدى سيدنا إسماعيل بذبح كما ورد فى قوله تعالى: «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»، هذه رؤيا بدأت بغيبيات وانتهت بواقع، فيها درس عن طاعة الله، وعطائه سبحانه لمن أطاعه، كما فيها درس لطاعة الأبناء للوالدين وجزائهم عند الله!
وأخبرنا أيضا القرآن الكريم بعدة رؤى فى قصة النبى يوسف هى الأشهر فى تاريخ الأديان بعد رؤيا أبى الأنبياء؛ تتعلق الأولى بالنبى يوسف نفسه حين قال لأبيه يعقوب (عليهما السلام): يا أبت، إنى رأيت فى المنام أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر ساجدين لى، فكانت هذه الرؤيا بشرى وتنبؤا بمستقبل عظيم ليوسف عليه السلام، تحققت عندما أصبح عزيز مصر، وكذلك رؤيتى السجينين (خباز وساقى ملك مصر) اللذين صاحبا يوسف فى السجن، فضلا عن الرؤيا التى رآها ملك مصر، والتى قام بتفسيرها يوسف عليه السلام، ومضمونها أن الملك رأى فى منامه سبع بقرات هزيلات ضعاف يأكلن سبع بقرات كبيرات سمان، ثم رأى سبع سنبلات خضر، وأخرى مثلهنّ لكن يابسات، ولما فسَّر يوسف رؤيا الملك الذى أحبه عيَّنه أمينا على خزائن مصر، وبعد موته أصبح يوسف عزيز مصر، هذه الرؤى غيبيات أصبحت واقعا لا ينكرها أحد!
• • •
وعن النوع الثانى من الغيبيات الذى لا ينكره أحد أيضا هو «توارد الخواطر»، ويطلق عليه فى الغرب «Telepathy»، وتعنى بلغة العصر العلمية «الاستشعار عن بعد»، وباللغة الأدبية «المناجاة عن بعد»، وفى مفهوم الأمة الإسلامية تبرز فى مقولة: «يا سارية الجبل»؛ حادثة تاريخية من التراث الإسلامى، وقعت عام 645م (23 هـ)، تشكل مثالا تاريخيا للقدرة على التخاطر، حدثت للصحابى سارية بن زنيم ببلاد فارس فى خلافة أمير المؤمنين، فبينما كان عمر بن الخطاب يخطب على منبر رسول الله، إذ قال: «يا سارية الجبل الجبل»، وكان سارية فى جيش نهاوند، وعندما عاد من نهاوند، أبلغ عمر «أحدق بنا العدو، فسمعنا صوتك يا أمير المؤمنين وأنت تقول «يا سارية الجبل الجبل»، فانحزنا إلى الجبل، وسلمنا، وبالتالى نجا جيش المسلمين من الهلاك!
وفى صباح السبت 24 يونيو 2023، غداة تمرد قوات المرتزقة «الفاجنر» بقيادة زعيمها «يفجينى بريجوجين» خرّيج السجون، على صانعها رجل المخابرات الروسى القوى «فلاديمير بوتين»، رئيس روسيا الاتحادية، وفور سماعى للخبر الذى دوّى فى كل محطات التلفاز العالمية والمحلية، قادتنى الصدفة البحتة ــ وأنا أتنقل بين قنوات التلفاز للبحث عن فترة استراحة من الأخبار المزعجة التى هزت العالم بأكمله إلى قناة «النيل سينما» المصرية، فوقعت على فيلم لم أشاهده ولم أسمع عنه من قبل باسم «اختفاء جعفر المصرى»، وقد اعتبرت هذه المصادفة نوعا من «توارد الخواطر»، لأن أحداثه تفسر بدقة متناهية أحداث انقلاب زعيم الفاجنر «بريجوجين» على قيادة الجيش الروسى ورئيسه ومُحركه «بوتين»، فهو يتناول عواقب بيع النفس للشيطان أو الرضوخ لطلباته!
الفيلم مقتبس من مسرحية «مركب بلا صياد» للكاتب الإسبانى أليخاندرو كاسونا Alejandro Casona 1903ــ1965، من إخراج عادل الأعصر، وسيناريو وحوار بسيونى عثمان، وبطولة حسين فهمى ونور الشريف ورغدة، وعُرض عام 1998، وحصل على جائزة أحسن فيلم عربى فى مهرجان القاهرة السينمائى.
تدور أحداث الفيلم حول المنافسة بين اثنين من رجال الأعمال هما جعفر (نور الشريف) وداوود (يسرى العشماوى) والتى تصل إلى حد أن يحاول كل منهما قتل الآخر، يظهر فى البداية الشيطان (حسين فهمى) لداوود فى صورة رجل، ويطلب منه الموافقة على تخليصه من جعفر منافسه اللدود بشرط أن يُنفذ له كل أوامره مستقبلا، فيوافقه داوود، وعلى الفور يتدخل الشيطان فى أعمال جعفر الذى يفقد بعد فترة قصيرة كل أمواله فى البورصة، أملا من الشيطان أن ينهار جعفر ويُقدم على الانتحار، ولكن داوود يتراجع بعد فترة عن وعده، ولا يمتثل لطلب الشيطان بالقتل، فيقتل الشيطان داوود، ويذهب إلى جعفر ويعرض عليه أن يعيد إليه كل ما فقده من أمواله فى مقابل موافقته على قتل أحد الصيادين، فيوافق جعفر، ويقوم بالفعل بقتل همام الصياد الفقير الذى كان يعول أسرته الصغيرة.
يعانى جعفر من عذاب الضمير، فيذهب لقرية الصيادين حيث قابل حليمة (رغدة) زوجة همام، وعندما قرر أن يعترف لها بأنه هو الذى قتل زوجها، سبقته وأخبرته بأن سالم (حسين فهمى أيضا، حيث كان يلعب دورين: الشيطان وسالم شقيق زوجها) هو الذى قتله لأنه كان يُحبها، يحاول الشيطان إغراء جعفر مرة أخرى لارتكاب جرائم أخرى، ولكن جعفر يتغلب عليه، ويعود إلى رشده ويعيش قصة حب مع حليمة، ويتزوجها فى النهاية وينجب منها.
• • •
من خلال أحداث هذا الفيلم الخيالى، نرى كيف أن الإنسان الضعيف أمام نزواته أو الذى يبحث عن الانتقام أو الطمّاع وصاحب طموحات شخصية كبيرة من أمثال هتلر وصدام والقذافى.. يمكن أن يبيع نفسه للشيطان مقابل هدف مادى أو مجد شخصى؛ نرى أن الرئيس الروسى الذى يحلم بعودة إمبراطورية الاتحاد السوفيتى السابق، والذى يريد أن ينتقم من الغرب الذى ساعد على انهيار الاتحاد السوفيتى، ولينال هدفه لعب الدورين اللذين لعبهما حسين فهمى: الشيطان وسالم!
لقد عمل بوتين على تكوين جماعة من المرتزقة باسم «فاجنر» (اسم الملحن المفضل للزعيم النازى أدولف هتلر)، وجميع أعضائها من أصحاب السوابق والقتلة الذين أخرجهم بوتين من السجون، وجعل يفجينى بريجوجين زعيما لهم، ثم أطلق هذه المجموعة نيابة عن الجيش الروسى إلى عدة دول لتشعل الحروب فى عدة بلاد، ولتبتز مواردها، ومن أهمها سوريا وليبيا والسودان التى نقل منها بريجوجين الذهب إلى روسيا (ليدعم عملته الروبل) بالاتفاق مع زعيم قوات الدعم السريع «حميدتى» ــ المنشق عن الجيش السودانى النظامى ــ وانتشرت الجماعة المرتزقة أيضا فى بلدان أخرى فى أفريقيا مثل الصومال ومالى لينافس الوجود الفرنسى والغربى بشكل عام!
ولكن تجارب التاريخ تثبت دائما وأبدا أن السحر ينقلب على الساحر، وأن من يلعب بالنار لا بد وأن تحرقه فى يوم من الأيام، فعل نفس الشىء ــ قبل بوتين ــ الرئيس السودانى السابق عمر البشير (لعب دور الشيطان وسالم مثل حسين فهمى) الذى بدلا من معالجة مشاكله مع شعبه فى دارفور بالطرق السياسية السلمية، أسس جيشا موازيا للجيش النظامى السودانى باسم «قوات الدعم السريع» فى 2013، وبزعامة محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتى»، رجل لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولا علم له بالفنون العسكرية أو الوعى الوطنى، وعينه البشير برتبة فريق فى الجيش بصلاحيات خاصة، ليساعده على الفوز فى معركته ضد شعبه فى دارفور، فكان مصير البشير أن «حميدتى» كان أول من تخلى عنه عندما ثار الشعب السودانى ضده فى ثورة ديسمبر 2018!
ما بين أعوام 2013 تاريخ تأسيس قوات الدعم السريع فى السودان، و2018 تاريخ سقوط الرئيس السودانى السابق، و2014 تاريخ تأسيس شركة أو مجموعة فاجنر العسكرية، و2022 تاريخ هجوم روسيا على أوكرانيا، و2023 تاريخ انقلاب بريجوجين على قائده وصانعه الرئيس الروسى بوتين (الذى لم ينتصر على من انقلب عليه، ولكنه نجا من مصير البشير وهتلر وصدام والفذافى..، وربما إلى حين)، أعوام قليلة، ولكن الأحداث بنفس الأخطاء تتكرر فى سوريا وليبيا والسودان وروسيا، والإنسان لا يتعلم، حقا إن التاريخ يكرر نفسه بأخطائه ومصائبه، فمن يكون الغبى: التاريخ المُعلم أم الإنسان المُتعلم الذى لا يريد أن يتعلم، ويصمم على اتباعه لخطوات الشيطان وسالم (حسين فهمى)؟!
حفظ الله الوطن، وحفظ جيشه العظيم الذى لم يعرف ما يسمى بالمرتزقة، فهو جيش دفاع عن الوطن فى الداخل والخارج، وتحية لقادته الذين حافظوا على وحدته وقوته منذ نشأته.
أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) ــ جامعة الأزهر