يتجاهل دونالد ترامب البروتوكول الرئاسى، ويضفى على منصب الرئيس الأمريكى الكثير من الإثارة، خاصة فيما يتعلق بنهجه التفاوضى. دخل ترامب فترة حكمه الثانية بخبرة كبيرة فى إبرام الصفقات فى عالم الأعمال. لكن قائمته فارغة كمسئول منتخب فى التوقيع على صفقات ذات قيمة، إلى جانب مواقفه المتقلبة بشأن قضايا رئيسية مثل: الهجرة، والتعريفات الجمركية، وعلاقات بلاده الخارجية تجعل من الطبيعى السؤال عن ماهية أسلوبه فى التفاوض.
للتعرف على ذلك، دعونا نعود لعام 1987، حين أراد المطور العقارى - آنذاك - دونالد ترامب شراء طائرة خاصة لاستعماله الشخصى، وشعر ترامب أن بائع الطائرة البوينج 727 يائسا فى أشد الحاجة للتخلص من الطائرة، عرض ترامب عليه 5 ملايين دولار فقط، وهو ما كان من الواضح أنه مبلغ منخفض يبعث على السخرية، طبقا لما ذكره فى كتابه «فن الصفقات Art of the Deal»، وافتخر ترامب بعد ذلك بشراء الطائرة بمبلغ 8 ملايين دولار فى وقت كانت قيمتها الفعلية تقدر بـ30 مليون دولار، ومنحته ثقة زائدة ما زالت مسيطرة عليه حتى اليوم.
• • •
يدل هذا النموذج على نهج ترامب العام فى إبرام الصفقات، فهو يقدم بعض العروض والتصورات التى تبدو غريبة كنقطة انطلاق للمفاوضات لمحاولة تغيير الإطار المرجعى بأكمله للمساومة التى ستتبعها، إلا أن ترامب يحاول تطبيق طريقة الصفقات العقارية على الشئون الدولية، السياسى منها والاقتصادى، والتى تعد أكثر تعقيدا وتداخلا فى جوانب وخلفيات لا يمكن حسابها ماديا أو ماليا. ويمكن أن تنجح هذه الاستراتيجية بالتأكيد فى بعض الظروف، كما أن لها حدودا واضحة فى المفاوضات المعقدة مثل تلك الموجودة فى السياسة العامة، كما تظهر تجربة الأشهر الماضية فى فترة حكمه الثانية.
تشير نظريات التفاوض إلى فائدة أن تبدأ بقوة، فإذا تم التوصل إلى اتفاق، فمن المحتمل أن يكون أكثر فائدة لك، إلا أن هذا لا يمنع وجود العديد من المخاطر، وهذه المخاطر أكبر بكثير فى السياسة بين الدول، وفى حالة التفاوض بين الدول، خاصة تلك التى يلعب فيها الرأى العام والإعلام الحر دورا فى تشكيل الوعى العام للمواطنين والمواطنات، يكون للصورة العامة والمصداقية، والثقة المتبادلة، دور هام فى مواقف الأطراف. من هنا فالعروض العدوانية غير المنطقية تجعل من الصعب على الأطراف حفظ ماء الوجه أو إعلان النصر فى وقت لاحق من عملية التفاوض، وهذا أمر بالغ الأهمية بشكل خاص بين الدول ذات السيادة.
فى المفاوضات المالية والتجارية مثل حالة شراء الطائرة، ربما يكون تقديم عرض متطرف ينطوى على نسبة كبيرة جدا من المخاطر، وربما كان يمكن لترامب تدمير الصفقة قبل بدايتها، لكن فى حسابات ترامب دائما السيناريو الأكثر سوءا، وهو ما الذى سيحدث إذا غابت ثقة البائع فى المشترى، أسوأ شىء كان يمكن أن يحدث لترامب هو أن تفشل الصفقة، ومن ثم يبدأ رحلة البحث عن طائرة أخرى لشرائها، وهو ما يعد تكلفة يمكن قبولها.
• • •
الأمر يختلف فى التفاوض بين الدول، فترامب لا يتفاوض بصفته الشخصية الفردية، بل كرئيس منتخب ممثل لأكبر وأقوى دول العالم، ومن هنا قد تكون سمعته وسمعة بلاده على المحك خاصة مع وجود أطراف داخل وخارج الولايات المتحدة يعملون على إفشال ترامب بكل السبل الممكنة.
خلق ترامب لنفسه معضلة مع غروره بالقوة الواضحة لبلاده عند تقديمه العروض الأولى فى أى قضية يواجهها، قال ترامب إنه سينهى الحرب الأوكرانية فى أول يوم له فى الحكم، وهدد حركة حماس بالويل والدمار إذا لم يتم الإفراج عن كل الرهائن فى منتصف فبراير الماضى، ومر الموعد. كما هدد بالانسحاب من حلف الناتو، وهو ما لم يحدث، ويتراجع ترامب عما ذكره من استمرار تعريفة مقدارها 145% على كل المنتجات الصينية، ولم تظهر بعد نتائج رغبات ترامب التوسعية التى يرفضها أغلب الشعب الأمريكى، ناهينا عن شعوب كندا وجرينلاند وبنما.
• • •
من أهم نقاط ضعف ترامب أنه لا يزال يرى أن التعاون ضعف، وأن أى بادرة حسن نية هى تنازل، وكل مفاوضات هى منافسة عدائية على المكاسب قصيرة الأجل. ويرى البعض أن ترامب يتبع منهج «الارتباك كوسيلة للضغط»، فى حين يرى آخرون أنه عفوى لا يدرك خطورة ما يقوم به، ولا يملك أجندة ويسعى فقط للمجد الشخصى، لكن الأهم أنه لا يدرك حجم وتعقيدات القضايا التى يجب أن يبحثها ويتخذ قرارات حولها. من هنا هناك 3 طرق بسيطة للتعامل مع ترامب:
الطريقة الأولى المديح: ترامب سعادته بالثناء والمبالغة فى تعظيم تحركاته وأهمية قراراته، وسعادته بالثناء وتقديم الهدايا، إذ لا يخفى ما يقدم له ولأفراد عائلته، ولا يخجل من تكرار محبته لهؤلاء المادحين والمانحين.
الطريقة الثانية: الثناء علنا والتشدد سرا، وتتبع إيطاليا واليابان بنجاح استراتيجية «خلف الأبواب المغلقة» أى إنهما تضغطان على ترامب فقط سرا، فى حين تلتزمان الصمت فى العلن تجاه ما يقوم به ويتخذه من قرارات.
الطريقة الثالثة: من لم يستطع التعامل بالطريقتين السابقتين، فعليه بالتصعيد والمواجهة، حيث لا يخف ترامب أنه فقط يحترم الأقوياء والناجحين. وهنا تعد الصين نموذجا جيدا، إذ اختارت المواجهة والرد بنفس قوة ما يقوم به ترامب مع التهديد بالتصعيد عند الضرورة. ولا تُظهر الصين أية رغبة فى العجلة لتوقيع اتفاقيات أو عقد صفقات جديدة مع ترامب، وهذا ما جعله وكبار مساعديه يظهرون وكأنهم يستجدون مكالمة أو زيارة من نظرائهم الصينيين.