يحدث فى بلاد التيوليب - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:47 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يحدث فى بلاد التيوليب

نشر فى : الخميس 8 يونيو 2017 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 8 يونيو 2017 - 8:40 م
لفت نظرى خبر صغير فى أسفل الصفحة الأخيرة من جريدة الشروق يوم الجمعة ٢ يونيو الماضى كان هذا عنوانه «هولندا تغلق سجونها وتستورد معتقلين». انتقلت من العنوان إلى المتن فعلمت أن هولندا تواجهها مشكلة مزمنة أساسها أن عدد سجونها أكثر من عدد الخارجين على القانون فيها مما يؤدى إلى الاحتفاظ بعدد كبير من السجون الخاوية، ولما كان هذا الوضع مكلفا اقتصاديا بسبب ارتفاع فاتورة تشغيل السجون وحراستها دون داعٍ فلقد قررت هولندا التحرك على مسارين، المسار الأول هو غلق بعض سجونها وبالفعل أغلقت الدولة قبل أربعة أعوام ١٩ سجنا وسوف تغلق ٥ آخرين فى نهاية صيف هذا العام. أما المسار الثانى فهو استيراد سجناء من الدول المجاورة، وقد سبق لبلجيكا أن طلبت استئجار سجن من هولندا فى عام ٢٠١٠ كما أن النرويج أرسلت ٣٤٥ سجينا ليملأوا فراغ السجون الهولندية فى عام ٢٠١٦.
***
فى البلاد التى تقل فيها نسبة الجريمة وتُحترم فيها حقوق الإنسان تقل الحاجة لأسوار السجون، وتستطيع الدولة أن تبتكر من طرق المراقبة والمتابعة ما يحفظ حريات المواطنين دون الإخلال بالأمن، وهولندا واحدة من هذه البلاد. هناك أيضا علاقة وطيدة بين الجمال وبين ضعف نوازع الشر، فالعين التى تعتاد النظر إلى ما يسرها والنفس التى تغتسل بمشاهد الطبيعة الخلابة من المنطقى أن تأتلف مع هذا الواقع وتصير جزءا منه هكذا رأينا برلمانيا هولنديا نجح فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة يصطحب معه البيانو الخاص به ويودعه إحدى حجرات البرلمان لعل الفرصة تواتيه بين جلسة وأخرى ليعزف عليه بعض ما يخفف به توتره من أفعال السياسة والسياسيين. خبر البرلمانى العازف نشرته أيضا جريدة الشروق فى اليوم التالى مباشرة على نشر خبر السجون الهولندية الخاوية فإن لم تصدح الموسيقى فى بلد رامبرانت وڤان جوخ فأين بالله عليك تصدح؟ لذلك فإن جزءا من اهتمامى بمتابعة المعركة الانتخابية الأخيرة فى هولندا كان مرده بالتأكيد الصنعة والتخصص السياسى لكن جزءا آخر منه كان ينبع من الخوف من تغيير السياق العام الذى يعزف فيه الساسة وتخلو فيه السجون.
***
لم يُقدر لى أن أزور أمستردام إلا مرة واحدة وكترانزيت لبضع ساعات قليلة لم تمكننى من أن أستوعب كل الجمال الذى تتحلى به هذه المدينة. لكن القراءة عن هولندا وحكايات الأصدقاء والصور التى تطالعك بمجرد أن تضع اسم هذا البلد على محرك البحث جوجل تعطيك شعورا بأنك تتجول فى إحدى جنان الله على الأرض. شلالات منبسطة على مدد الشوف لزهرة التيوليب التى تشتهر بها هولندا تحمل كل ألوان قوس قزح وإن ظل اللون الأبهى للتيوليب هو اللون البنفسجى المشرب بالسواد الذى تغنت به أحلام مستغانمى فى رائعتها «الأسود يليق بك». قبل فترة أهدتنى ابنتى المقيمة فى كندا دزينة من أبصال التيوليب سعدت بها سعادة كبيرة لكن عندما زرعتها فى الأرض وتابعتها لم تزهر فالمناخ مختلف والخبرة قليلة، وكل ما استفدته من هذه التجربة معلومة عن أن زهور التيوليب الكندية أصلها هولندى، وأن ملكة هولندا التى زارت كندا فى أربعينيات القرن الماضى وسرتها حفاوة استقبال الكنديين لها أرادت أن تعبر لهم عن امتنانها الشديد فقامت بإهداء كندا آلافا من أبصال التيوليب، فكان أن أصبحت هذه الزهرة واحدة من أجمل الزهور الكندية.
***
فى هولندا مهرجان سنوى للزهور تتنافس فيه المدن المختلفة على عرض زراعتها على مدى العام، وفِى هذا المهرجان تتجلى قدرة غريبة على تأليف الألوان التى يُشبه لك أنها لا تأتلف فإذا هى حين يتراص الواحد منها بجوار الآخر تبدو كأنها خُلقت معا، زهور برتقالية وحمراء.. وردية وصفراء.. زرقاء وبنفسجية تحفها على الضفتين زهور شاهقة البياض وكأنها تسير فى موكب عُرس يحرسه لون أبيض يليق بالمناسبة. حدائق أشجارها متعانقة تطوق جذوعها نباتات متفاوتة الأطوال فى تنسيق بديع كأنها أساور من الخضرة تزين سيقان ثلة من الغيد الحِسان. يذكرون هولندا لماسها وأجبانها وطواحينها الهوائية بطرزها المعمارية المميزة، يذكرونها بحياتها الليلية الصاخبة وضوئها الأحمر الخافت الذى يخفى وراءه ما يخفيه، يذكرونها بتساهلها مع تداول الحشيش وتعاطيه دون مشاكل، ويذكرونها بقوة اللوبى الصهيونى فيها... هناك فى هولندا مائة سبب وسبب للتميز أما بالنسبة لى فإن هولندا هى باقة من الزهور وفِى القلب منها زهرة التيوليب.
***
فى بلاد التيوليب لا توجد حاجة لإعادة تشغيل السجون وليت هولندا لا تستورد سجناء لا من بلچيكا ولا من النرويج ولا من أى بلد أوروبى آخر، فالتجارة فى الخارجين على القانون تجارة خاسرة مهما جلبت من أموال، خاسرة لأنها تغير وجه هذا البلد الذى يُذكر له أن حدائقه عامرة وسجونه خاوية، وإذا كنا جربنا كثيرا لافتات مغلق للتجديدات أو لظروف طارئة على أبواب المحلات التجارية فلم لا نجرب لافتة مغلق لتغيير النشاط على أبواب السجون الهولندية المغلقة؟ وحتى تبقى سجون هولندا خاوية فإنها بحاجة أن تبقى بعيدة عن مرمى نشاط جماعات الإرهاب وتنظيماته، أقول ذلك وفِى ذهنى أن السويد التى تعد بدورها من دول السجون الخاوية قد فُجِعت بحادث دهس عمدى لبعض مواطنيها فى شهر أبريل الماضى. هذه البلاد تستثمر فى قيم الجمال وتحب الحياة ويزيد المسموح فيها كثيرا جدا على الممنوع فلنساعدها على أن تبقى كذلك حتى إذا ما هفونا يوما إلى واحة للهروب وجدناها مشرعة الأبواب مغلقة السجون.

 

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات