... وما زلت مشغوفا بتتبع كل ما يتعلق بتلك اللحظة التاريخية والتحول المفصلى الذى جرى فى المجتمع المصرى ثلاثينيات القرن الماضى؛ بظهور الراديو وارتباطه بشهر رمضان معرفيا وفنيا وإبداعيا وكل شىء!
خلال الفترة من 1934 وحتى بداية البث التليفزيونى فى مصر عام 1960 كان «الراديو» هو بطل هذه العقود بلا منازع؛ هو وسيلة التسلية والترفيه الأولى، والنافذة التى يتصل من خلالها الناس بالعالم والدنيا وكل شىء!
اقتناء «راديو» فى ذلك الزمان كان حدثا جللا يحاط بكل مظاهر الاحتفاء والاحتفال والتوقير، وكان يوضع فى أعز مكان وأرفعه فى المنزل، وعلى ارتفاع عال ليكون بمنأى عن عبث الأطفال، كما كانت الأمهات وربات البيوت يحرصن على توفير غطاء قماشى أنيق يحفظه ويقيه من الغبار، فضلا على اعتباره قطعة زينة باعثة على الفخر والمباهاة!
لفت نظرى فى كتابات وسير وروايات تلك الفترة حضور الراديو بكثافة لا نظير لها، ورصد غير كاتب كبير هذا الظهور، وهذا الحضور، كل بوسيلته واختياره الفنى؛ فهناك من كتب المقالات وسجل الانطباعات (استشهدت فى مقال سابق بمقتبس من مقال لأحمد حسن الزيات فى الرسالة)، وهناك من أورد فصولا فى سيرته الذاتية أو مذكراته الشخصية بتفصيل وعناية (زكى مبارك، أحمد أمين، يحيى حقى، وغيرهم).
أما نجيب محفوظ عميد الرواية العربية وشيخها الجليل، فسجل تلك اللحظة إبداعيا وتاريخيا وتوثيقيا، وفى أكثر من مناسبة وتوقف عند ظهور الراديو والدور الذى لعبه والأثر الذى تركه فى مواضع عديدة من حوارات أجرى معه، وفى مشاهد لا تنسى من أعماله الروائية الخالدة.
ينقل رجاء النقاش عن نجيب محفوظ فى مذكراته «وكنت أحيانا أذهب للاستماع إلى شاعر الربابة وأقف على باب المقهى أستمع إلى حكايات لا أدرك معناها بسبب صغر سنى فى ذلك الوقت، لكننى تأثرت بها، وظهر هذا التأثر فى بعض أعمالى التى تناولت الحارة الشعبية مثل «زقاق المدق». وكانت هذه الظاهرة ـ شاعر الربابة ـ منتشرة قبل ظهور «الراديو» الذى ما إن ظهر حتى كان من الأسباب القوية فى اختفاء شاعر الربابة، والحقيقة أن الحكايات المسلسلة التى نسمعها فى الإذاعة أو نشاهدها فى التليفزيون هى صورة حديثة من شاعر الربابة الذى كان يلتف حوله فى مقاهى الأحياء الشعبية».
وفى حوار إذاعى آخر، يروى نجيب محفوظ «ظهور الراديو كان سحرا، وقت أن ظهر الراديو كان شيئا مذهلا، وكان من آثار ظهوره الحاسمة فى عام 1934، أن أخذت مسارح روض الفرج فى التلاشى والاندثار تماما، حيث قدمت الإذاعة الأوبرا والأوبريتات القديمة، فاكتفى الناس بسماعها فى الراديو».
لكن ما رواه نجيب محفوظ من ذكريات بديعة عن ظهور الراديو وأهميته وما ترتب على ظهوره من تحولات مذهلة «كوم»، والمشهد الرائع المبدع الذى سجل فيه هذه اللحظة فنيا فى روايته العظيمة «زقاق المدق» كوم آخر!
سنقر صبى القهوة فى «زقاق المدق»، وأداة المعلم كرشة فى إدارة العمل اليومى وتنفيذ ما يصدر إليه من الأوامر والتعليمات، لا يستجيب سنقر لشاعر الربابة الضرير عندما يطلب قهوة، سينفذ سياسة المعلم كرشة بإهمال الشاعر وتجاهله تماما، بعد أن أشرق عصر الراديو! اقرأوا هذا المشهد:
«فقال المعلم كرشة وهو يتخذ مجلسه المعتاد وراء صندوق الماركات:
ـ عرفنا القصص جميعا وحفظناها، ولا حاجة بنا إلى سردها من جديد، والناس فى أيامنا هذه لا يريدون الشاعر، وطالما طالبونى بالراديو، وها هو ذا الراديو يركب، فدعنا ورزقك على الله.
فاكفهر وجه الشاعر، وذكر محسورا أن قهوة «كرشة» آخر ما تبقى له من القهوات، أو من أسباب الرزق فى دنياه، بعد جاه عريض قديم. وبالأمس القريب استغنت عنه كذلك قهوة القلعة. عمر طويل ورزق منقطع، فماذا يفعل بحياته؟! وما جدوى تلقين ابنه البائس هذا الفن وقد بار وكسد؟! وماذا يخبئ له المستقبل وماذا يضمر لغلامه؟! اشتد به القنوط، وضاعف قنوطه ما لاح فى وجه المعلم من الجزع والإصرار، فقال:
ـ رويدك يا معلم كرشة، إن للهلالى لجدة لا تزول، ولا يغنى عنها الراديو أبدا..
ولكن المعلم قال بلهجة قاطعة:
ـ هذا قولك، ولكنه قول لا يقره الزبائن فلا تخرب بيتى. لقد تغير كل شىء!
فقال الشاعر فى قنوط:
ـ ألم تستمع الأجيال بلا ملل إلى هذه القصص من عهد النبى عليه الصلاة والسلام؟
فضرب المعلم كرشة على صندوق المركات بقوة وصاح به:
ـ قلت لقد تغير كل شىء!».
سيخسر شاعر الربابة الضرير الرهان، وسيصبح الراديو مستودعا أمينا لكل تراث السيرة الهلالية والسير الأخرى، بل سيصبح الراديو ذاته، والتليفزيون من بعده، وصولا إلى عصر السوشيال ميديا، رهائن الشبكة العنكبوتية المذهلة.. وسبحان من له الدوام!