(1 )
حينما كنت أعكف على تأليف كتابى «سيرة الضمير المصرى ــ ملامح من تاريخ الفكر المصرى الحديث» (2020) كان من أهم المراجع التى توقفت عندها وقرأتها بعناية، وعدت إليها مرارا كتاب المثقف اللبنانى والعروبى الكبير الدكتور معن زيادة «معالم على طريق تحديث الفكر العربى» الذى صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية فى يوليو 1987 تحت رقم (115).
ورغم مرور ست وثلاثين سنة على صدور الكتاب، فإنه ما زال يحتفظ بوهجه التحليلى وقدرته البارعة على استخلاص الأفكار وقراءة النصوص، خاصة نصوص كبار النهضويين المصريين والعرب فى القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. فما زلنا وبعد ست وثلاثين سنة من صدور الكتاب نبحث عن محاولة الخروج من بحر الظلمات (عنوان الفصل الخامس)، وما زلنا نبحث عن تأسيسات لماهية الثقافة، وماهية الحداثة والمعاصرة، وما زلنا نراجع بديهيات حول «المجتمع الحديث» و«العقل الحديث».. إلخ، أو كما يقول مؤلف الكتاب ذاته فى مقدمته «لم تزل قضية التقدم والتحديث قضية العرب الأولى، وستبقى كذلك لفترة طويلة من الزمن»، وكأنه كان يستشرف أو يتنبأ بأنها «ستبقى كذلك لفترة طويلة من الزمن»!
(2 )
وأظن أنه لهذا السبب ربما تعيد السلسلة الكويتية العريقة «عالم المعرفة» طرح طبعة جديدة من هذا الكتاب المرجعى الأصيل (الكتاب رقم 505/ يوليو 2023) بعد 36 سنة من ظهوره الأول. أو هذا ما استنتجته بفهمٍ خاص من التنويه الذى وضعه المؤرخ الكبير السفير خالد زيادة للكتاب، ووضع صورة غلافه على صفحته الشخصية على «فيسبوك».
فى كل الأحوال أَحمدُ للصديق الدكتور خالد زيادة هذا التنويه بهذا الكتاب المهم، والتذكير بما طرحه من أفكار وتحليلات، وبالجملة هذا التأطير الكلى والشامل لمسيرة البحث عن النهضة والتحديث فى ثقافتنا العربية الحديثة، ضمن رؤية إنسانية، تربط بين هذا السعى فى عالمنا العربى، وما حققته الحضارة الغربية من طفرات شكلت مجتمعاته الحديثة، وصاغت «عقله» الحديث، ورسخت قيم الحرية والعدالة والديمقراطية، وكونت عصور نهضته وتنويره، ثم حداثته وما تلاها.
يلخص الكتاب رؤية وتحليل مثقف عروبى كبير بقيمة معن زيادة لحركة الفكر العربى الحديث، وإن كان ركز على نماذج من الفكر المصرى الحديث والمعاصر الذى كان يتعامل معه باعتباره ممثلا للفكر العربى الحديث كله، باعتبار الأسبقية وباعتبار التمهيد والريادة. لذا ستتردد أسماء الطهطاوى، والإمام محمد عبده، محللا أفكارهما ومبرزا جهودهما الإصلاحية والتنويرية، ومتوقفا أمام نظراتهما التجديدية الأصيلة فى التعليم، والتربية، والتقدم الحضارى، والبحث عن النهضة، والتحديث الفكرى والمادى.. كل ذلك فضلا على عرض رؤاهم «التوفيقية» بين التراث الإسلامى من ناحية، والحداثة الغربية من ناحية أخرى.
(3 )
يحدد المفكر اللبنانى الكبير ثلاث مراحل رئيسية مر بها الفكر العربى الحديث؛ هى:
مرحلة التأسيس والتأصيل، وهى المرحلة التى امتدت على مدى القرن التاسع عشر كله تقريبا، وهى المرحلة التى يقول عنها إنه «رغم فشل المشروع النهضوى فى هذه المرحلة، لأسباب خارجية أولا تمثلت بتدخل الاستعمار المباشر، ولثغرات داخلية تمثلت بإهمال القوى الشعبية، فإن ما رافقها من إنجازات ومكاسب كان له الدور الأول فى إرساء الفكر العربى الحديث على قواعد ثابتة، وأهم ما فى هذه المرحلة أنها كانت ممهدة للمرحلة الثانية من مراحل هذا الفكر العربى».
المرحلة الثانية؛ مرحلة ظهور الفكر القومى، ولا ننسى أن المفكر الكبير كان أحد أهم المثقفين العروبيين القوميين، ومن المنافحين عنها، وإن كان هذا لم يمنعه من الإقرار بأن «المشروع القومى» انتهى إلى الفشل أيضا بسبب الضغوط الخارجية والثغرات التنظيمية والسياسية.. إلخ.
ثم تأتى المرحلة الثالثة التى يسميها المرحلة الراهنة (فى الفترة التى كتب فيها هذا الكتاب؛ النصف الثانى من الثمانينيات) التى يمكن وصفها بأنها مرحلة انحسار، يسودها التخبط بين مشاريع تحديثية وطنية ــ قطرية محدودة الأفق والنتائج، وهيمنة أيديولوجيات معادية للتحديث عموما وغير قادرة على استيعاب أهميته وضرورته.
ويقتصر الكتاب على معالجة تحليلية تفصيلية لقضية التحديث والفكر والثقافة المحدثين، ويتناول المرحلة الأولى من مراحل الفكر العربى الحديث، والشروط التى أنتجتها، ويقف الكتاب حد هذه المرحلة لأسباب يوردها المؤلف تفصيلا فى ديباجة الكتاب.
(4 )
يتوقف الدكتور معن زيادة تفصيلا أمام جهود الطهطاوى الإصلاحية ومحاولاته المذهلة فى تحديث نظم التعليم والثقافة والفكر وترسيخ القيم الحضارية الحديثة فى المجتمع المصرى خاصة، والمجتمعات العربية والإسلامية عموما، ويتوقف تفصيلا كذلك أمام جهود النهضوى خير الدين التونسى صاحب كتاب «أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك»، والذى يُعد مع كتاب الطهطاوى «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، التعرف الأول، والنافذة الأولى على الآخر/ الأوروبى ونظمه وقيمه وأحواله المجتمعية والسياسية والفكرية... إلخ.
ومن الطهطاوى وخير الدين التونسى إلى جمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده، أو المحطة الإصلاحية البارزة فى حركة ومسار تحديث الفكر العربى فى أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.. (وللحديث بقية).