فى مقالى السابق «العيب» تطرقت عرضا إلى ما أسميته بـ «ثقافة السبارس»، أو الثقافة المبتورة الناقصة التى يتعامل معها جمهور السوشيال ميديا خاصة من الشباب وصغار السن، وتكاد تكون هى المصدر الوحيد الذى من خلاله يتعرفون على العالم من حولهم، بل ويحكمون عليه أيضا!
هذه الثقافة فى الغالب تقوم على «الخفة والسذاجة والنقل المتسرع غير الموثق، ثقافة قوامها الخطف والتقاط القشور والادعاء الشكلى، ثقافة التلفيق والخلط والخزعبلات التى لا علاقة لها بفكرة عميقة أو بحث رصين أو توثيق علمى أو قراءة منهجية».
ثقافة تتكئ بكل عنف على الجماهيرية الزائفة والأعداد الفلكية المتسترة وراء ما بات يعرف بـ «التريندات» و«الفولوورز» وما شابه ذلك.. وفى وسط هذا الركام الخانق، لا يوجد واحد من هؤلاء امتلك الحد الأدنى من الفهم السليم للغة التى يقرأ أو يكتب بها أو تأسس وعيه ونمت ذائقته بشكل طبيعى بموازاة قراءة نقدية عميقة (امتحان إملاء متواضع مع اختبار ثقافة عامة حقيقى كفيلان بكشف المستور)».
وأظن أن دراسة ــ بل دراسات ــ لازمة لهذا الفضاء الزاخر الهادر (فيسبوك، تويتر، إنستجرام،.. إلخ) تحلله وتكشف عن الأغوار البعيدة والتأثيرات العميقة التى لعبها فى خلخلة منظومات كاملة وتصورات بأكملها عن الحياة والمعرفة والعلاقات بين البشر، وما أدت إليه، وتؤديه، فى تشكيل فكر ووجدان الملايين دون أدنى مبالغة.
إن وسائل السوشيال ميديا وفى القلب منها «فيسبوك» أصبح فعلا فضاء جامعا لكل شىء.. «أى حاجة وكل حاجة!»؛ الجاد والهازل، الحقيقى والمفبرك، الشخصى والعام، السلمى والعنيف.. كل هذا يمثل صعوبة شديدة (بل خطورة أكيدة فى بعض الأحيان) على من يحاول الإبحار فى مثل هذا الفضاء دون أن يكون واعيا بمشكلاته وتداعيات التعامل معه دون وعى ولا إدراك.
لو أخذنا «فيسبوك»، مثالا، باعتباره الموقع الأكثر شهرة وانتشارا على كوكب الأرض؛ هذا الفضاء الأزرق قادر على ابتلاع الملايين من البشر وتعريتهم تماما وفضحهم، مجازا وحقيقة، لا أمام أنفسهم فقط وإنما أمام الآخرين يعنى بلغتنا الدارجة المصرية «تجريسة وعلى الملأ فضيحة!».
هو فى الحقيقة أداة أيضا للانتحار المعنوى دون أن يدرى أحدهم أنه ينتحر معنويا بجملة واحدة.. كلمة واحدة كفيلة بالفضح وهتك الستر وجعل صاحبها «مسخة» (المصيبة أن من يتحول إلى مسخة لا يدرى أنه مسخة!!). ليس هذا فقط، فقد يؤدى جهل الشخص بطبيعة هذا الفضاء الذى يتعامل معه للمرة الأولى أو يتعامل معه بخبرة ناقصة وغير مكتملة، قد تؤدى به للانزلاق إلى فِخَاخٍ وحُفُر تصل إلى حد الكوارث بالمعنى الحرفى..
والشواهد أكثر من أن تحصى!
صورة أخذت دون إذن صاحبها أو صاحبتها، تحايلا أو صدفة، قد تدمر حياته أو حياتها تماما! اختراقات الحسابات الشخصية، وهى مما يدخل فى عداد الجرائم الإلكترونية، وما يتبع ذلك من ابتزاز ومساومة وتهديد بالفضح وتشهير بالسمعة، كل ذلك فيض من غيضِ مصائب السوشيال ميديا لمن لا يعرف كيف يبحر وسط أمواجه وأنوائه!
وإذا كانت السخرية لدى كل شعوب الأرض وسيلة للنقد تكاد ترتقى بذاتها إلى فن بذاته، فإنها على السوشيال ميديا (وفى أوساط المصريين بالأخص) أو من خلالها تتحول إلى وسيلة إعدام فى منتهى القسوة!
تصبح «الإفيهات» و«النكات» و«التريقة» التى تكاد تتوحد حرفيا مع البذاءة والفحش كما لو كانت حكما باتا بالإعدام المعنوى يصرف ولو قليلا من طاقة العنف المكبوت والغضب المكتوم داخل النفوس والقلوب!
دون مبالغة يتعمد البعض من خلال السوشيال ميديا إعدام من يختلفون معه بمشانق من العبارات الساخرة والنكات اللاذعة والسباب الفاحش!
هذا فضاء غادر إذا لم يكن المرء منه على حذر ودراية وقع فريسة بين أنياب لا تُسيل دما لكنها لا ترحم!