أثار اهتمامى المقال الذى نشره دكتور جلال أمين فى صحيفة الأهرام تحت عنوان «قصة شيطان صغير» فانتقلت بسلاسة من العنوان إلى المتن، واستمتعت باستعراض الكتيب الذى صدر أخيرا للأديب محسن عبدالعزيز بعنوان «شيطان صغير عابر». والكتاب موضع العرض يحكى عن شقاوة صبى صغير، تتجلى شقاوته فى طبيعة علاقته بالعالم المحيط به، سواء كان هذا العالم هو عالم الأم أم عالم القرية أم عالم النساء والرفاق، وفى الأخير فإنه يفتح شهيتك لقراءة التفاصيل.
ذكرنى «شيطان» محسن عبدالعزيز بهذا الشيطان الصغير الموجود فى كل عائلة من عائلاتنا، وهو عادة طفل سلوكه غير متوقع، كلامه أكبر من سنه، نحيل الجسم كثير الإصابة، ذكى اجتماعيا وإن لم يكن ذكيا فى الدراسة بالضرورة، ثم إنه عادة ما يكون خفيف الظل. مولعون نحن بهذه الشخصية الفريدة المسلية التى يجسدها العفريت الصغير، ويزداد ولعنا بطبيعة الحال كلما كان هذا العفريت يمارس التخريب فى بناية مجاورة أو فى منزل أسرة صديقة أو فى أى نطاق بعيد عنا والسلام، فالبعد يحصننا من آثار شقاوته ويحفظ لحياتنا رتابتها، حتى إذا تقدم بِنَا العمر جد على إعجابنا سبب إضافى هو أن هذا الشيطان الصغير يصنع بشقاوته كل ما تحرجنا أن نفعله نحن فى طفولتنا.
***
كان أمجد من هذه النوعية المحببة من العفاريت الصغيرة، وكان ترتيبه الرابع والأخير بين أبناء أسرة جمعتها بأسرتنا علاقة صداقة متينة، وأذكر كيف كنّا ونحن صغار ننتظر بلهفة أخبار شقاوة أمجد لأن فيها قدرا هائلا من التشويق والإثارة وأيضا الإشباع، فتارة كان يتدلى من نجفة الصالون فينخلع قلب الأم خشية أن يصعقه التيار أو يسقط من عَلٍ مكسورا، وأخرى كان يفسد الواجب فى كراسة أخيه انتقاما منه بسبب خلاف تافه بينهما، وثالثة كان يتحرش بالخادمة الصغيرة فيتسبب فى قطع عيشها، ورابعة كان يتبين أنه يدخن حين يختلى بنفسه فى الحمام.. كان أمجد وكان وكان. اكتشف الصبى مبكرا أنه بهى الطلعة، ورأى الأقارب يكتمون ضحكاتهم وهم يستمعون إلى مغامراته فتأكد من خفة ظله، وهكذا تحققت له بعض المقومات التى تجعل التعليم أمرا ثانويا بالنسبة له. ليس معروفا على وجه الدقة لماذا نشأ أمجد دون إخوته على هذا النحو على الرغم من أن تربيتهم واحدة وهى تربية محافظة، كما أن جميعهم تعلموا فى مدارس الرهبان حيث الضحك بحذر والمزاح بحساب، والأم لا تعمل حتى نبرئ ساحة المرأة العاملة من الإهمال فهى دائما تحت الطلب نادرة الخروج سابغة العاطفة، أما الأب فكان من ذلك الطراز من الآباء الذى يهتم بأبنائه ولا يدللهم ومع ذلك فَلَو تحدثنا عن الحظوة فإنها كانت من نصيب الابن الأكبر لا أمجد.
***
عندما كبرنا وانفصلنا عن أهلينا كانت تأتينا بين حين وآخر أخبار أمجد بشكل متقطع فعلمنا أنه لم يكمل دراسته ومارس التجارة، ثم أنه تزوج وانفصل قبل أن يرزق بأولاد، ثم أنه التحى و«اهتدى» وواظب على دروس الدين، وأخيرا علمنا أنه سافر إلى وجهة غير معلومة، وكان هذا التطور تحديدا نقطة تحول فى حياة أسرته فقد تبخر أمجد فى لمح البصر كأن لم يكن، لا جواب ولا زيارة ولا خبر، أضافت سنوات غيابه تضاعيفها إلى عمر أمه وشرعت تتكلم عنه باستخدام فعل «كان» إلى أن حدث ما لم يكن فى الحسبان.
كان ذلك فى منتصف الثمانينيّات عندما دق جرس التليفون فى بيت أمجد، وعلى الجانب الآخر كان هناك من يبشر الأم بأن ابنها استشهد فى أفغانستان وأنه آن لها أن تزهو بأنها صارت أم الشهيد. وقع الخبر على الأم وقع الصاعقة فلم تتح لها الفرصة لتسأل أو تهذى، لم يترفق بها محادثها بل هوى على قلبها «ببشارته» وذهب. هل هى مزحة ثقيلة تمازحنى بها يا أمجد؟ هل تريد أن تختبر حبى لك؟ مضى اليوم والوقت والعمر أبطأ من المعتاد وما عادت بالأم حاجة إلى أيهم لكأنها لم تنجب إلا أمجد ولا ضحكت إلا معه. وحين كان يجن الليل كانت تناجيه كالذبيحة: معقول أنت يا أمجد؟ من دلك على أفغانستان يا بنى؟ من صاحبك فى دروب تورا بورا وحدثك عن الجهاد؟ ما شأنك بحرب من لا تعرف مع من لا تعرف؟. كادت تجن فهذا المحارب فى البلد الغريب ليس ابنها ولا شىء مشتركا بينهما، أمجد يحب الحياة أما هذا المصارع للروس فلا، طائش؟ نعم. متمرد؟ نعم. مغامر؟ نعم. لكنه يغامر ويعود، هل يعود؟
***
عندما انتشر الخبر وذاع تفذلك المتفذلكون وذهبوا كل مذهب، فمنهم من قال إن الانتقال من نقيض السلوك إلى نقيضه أمر شائع فينا، ومنهم من قال إن البسطاء من أمثال أمجد عادة ما يكونون صيدا ثمينا لجماعات الإرهاب، وثالث قال إن الجهاد فى أفغانستان مغامرة أخرى من مغامرات أمجد وإن تكن أخطرها على الإطلاق، وهناك من قال إن أمجد بكل مواصفاته لم يكن سوى «ابن موت»، أما أسرة هذا الشيطان الصغير نفسه فكانت تبحث عن التفسير عند أمجد وليس عند سواه.. تستنطق صوره وتفتش فى أوراقه ولا تصل إلى شىء فما إن كانت تجد خيطا وتتعلق به حتى ينتهى إلى صفر فعالم أمجد غامض زاخر بالأسرار. لم تغب قصة أمجد عن خيالنا قط فقد بثت فى نفوسنا خوفا عظيما لأنها ربطت ما كنّا نحبه ونتسلى به بما لا نتصوره مع الأولاد والأحفاد، وها هى ذكراه تلاحقنى مجددا مع قصة محسن عبدالعزيز عن الشيطان الصغير وإن بدا«شيطانه» على فرط شقاوته أكثر رفقا بأهله وبنا والأمر المؤكد أن أمجد لم يكن مثله «عابرا».