انتظرت عاما كاملا حتى حانت فرصة زيارة تونس الثورة، وحين حانت وضعت للزيارة خططا تمنيت لو اتسع الوقت لأقابل بعض سكان الأحياء الشعبية والفقيرة فى العاصمة وخارجها، واختلط فى مرزياتها، أى مقاهيها، مع شبان أكثرهم، إن لم يكن كلهم لم يكونوا قد ولدوا عندما كنت أعيش فى تونس وأجوبها شمالا وجنوبا. تمنيت بوجه خاص أن تسمح الظروف بأن أقابل شخصين أحدهما للمرة الثانية وهو الشيخ راشد الغنوشى، الرجل الذى قاد من داخل البلاد ثم من خارجها معركة سياسية مع نظام ديكتاتورى عنيد وفاسد، وعاد ليتولى القيادة الروحية لحركة النهضة متنازلا عن شرف تولى أى منصب رسمى، والثانى الدكتور المنصف المرزوقى، الطبيب الذى قضى الجانب الأكبر من حياته متنقلا بين الندوات والمؤتمرات الحقوقية ليدافع عن حقوق الشعب التونسى فى الحرية والعدالة. قابلته مرارا قبل أن يجلس على المقعد الذى كان يجلس عليه زعيم الأمة الحبيب بورقيبة واحتله من بعده الطاغية الفاسد زين العابدين بن على.
●●●
لم تسمح الظروف خلال هذه الزيارة بلقاء الغنوشى، إذ كان قد غادر إلى سويسرا ليشارك بصفته الشخصية كزعيم دينى وسياسى فى مؤتمر دافوس، ولم يفت على منظمى المؤتمر توجيه الدعوة إلى وفد حكومى يرأسه الدكتور الجبالى رئيس الوزراء ومعه وزير الخارجية وهو الباحث سابقا فى الشئون السياسية فى مركز البحوث التابع لقناة الجزيرة، ويرتبط بصلة مصاهرة مع الشيخ الغنوشى. ومع ذلك فات على منظمى المنتدى الاقتصادى العالمى دعوة وزير الاقتصاد فتسببوا فى إثارة شائعات انضمت إلى حملات النميمة التى تملأ أجواء العاصمة التونسية.
●●●
تأكد موعد اللقاء مع رئيس الجمهورية ليكون قبل ساعتين من موعد تحركه إلى مطار تونس ومنه إلى أديس آبابا. كان الطريق من الفندق إلى القصر قصيرا وميسرا فكلاهما يقعان فى ضاحيتين متجاورتين. انشغلت السيارة عن مناظر الطريق بمهمة أسمع أنها الأصعب فى أعراف العمل الصحفى، وهى مراجعة قائمة الأسئلة واستبعاد بعضها رغم أهميته، وترتيب أولويات بين ما تبقى، وفى النهاية الاقتناع بأن الأسئلة الثلاثة التى وقع اختيارى عليها هى بالفعل الأسئلة الأهم للقاء توقعت مقدما قصر مدته وتعدد موضوعاته.
فوجئنا وقد اقتربنا من القصر، بتجمعات لنساء ورجال يهتفون بمطالب وينددون بسياسات. كانت التجمعات منتشرة على طول الرصيف الدائر حول القصر، بينما لا يوجد جندى حراسة واحد يرتدى الزى الرسمى. مررت بهذا القصر عشرات بل مئات المرات عندما كان بورقيبة يقيم فيه، ولم يحدث أن رأيته مرة واحدة بدون حراسة جيدة.
دخلنا القصر، ولم يفتشنا أحد، ولم نمر على أجهزة الاستشعار التى أمقتها ولا يخلو منها قصر من قصور الحكام العرب. ملت على رفيق من رفاق هذه الرحلة وحكيت له ما حدث مع وفد عربى كان موجودا فى بغداد واستدعاه الرئيس صدام حسين ليوجه لأعضائه النصح والإرشاد. وصل الوفد إلى القصر فقيل لهم إن الرئيس فى قصر آخر، فراحوا إلى القصر الثانى فاستقبلهم الحرس وأبقوهم لساعة أو أكثر ثم أبلغوهم ـ أن الرئيس ينتظرهم فى قصر ثالث. ذهبوا إلى القصر الثالث واستقبلوا بمثل ما استقبلوا به فى القصر السابق. وبعد الانتظار المناسب أدخلهم الحراس فردا بعد فرد إلى غرفة لخلع الملابس فخلعوها وبعد خلعها توجهوا إلى غرفة أخرى الطريق إليها يمر عبر أجهزة الاستشعار الالكترونية ومفتشين يدويين. فى الغرفة الأخرى وجدوا ملابسهم فارتدوها ودخلوا إلى قاعة انتظروا فيها ساعة كاملة قبل أن يؤذن لهم بالدخول إلى مكتب الرئيس منهكين ومهانين.
فى قصر قرطاج، لم نجد حرسا ولا أجهزة استشعار ولا غرف خلع ملابس، وجدنا أحد موظفى الاستقبال فى انتظارنا ليرافقنا فى رحلة مشى طويلة كالرحلة التى مشيناها قبل يوم عندما زرنا رئيس البرلمان. هنا أيضا فى قصر قرطاج نمر فى ساحة ومنها إلى دهليز ثم آخر حتى ينتهى بنا المشوار فى قاعة استقبال متواضعة، نمكث فيها دقيقتين قبل أن ينضم إلينا عدد غير قليل من الموظفين، كلهم باستثناء كبيرهم شبان، وكلهم بدون استثناء لا يرتدون ربطة عنق، ومع هؤلاء انتقلنا جميعا إلى مكتب السيد رئيس الجمهورية، الحقوقى المعروف.
●●●
لا شىء فى الرجل تغير عن آخر مرة رأيته فيها بنظارته التقليدية المكعبة العدسات وبذلته التى لا تختلف تفصيلا عن آخر بذلة ظهر فيها أمام الكاميرا فى قناة الجزيرة أو قناة فرانس 24 وقميصه المفتوح عند العنق تماما كقمصان مساعديه الشبان. رأيت شبان الثورة يساعدون الرئيس ويستقبلون ضيوفه ويسجلون محاضر الاجتماعات، ورأيت الرئيس الذى لم يتخلص بعد من مفاجأة وجوده فى قصر قرطاج رئيسا لجمهورية تونس.
تحدث عن مفاجأة وصوله إلى منصب الرئاسة وعن حزبه الذى حصل على 27 مقعدا فى البرلمان فاستحق الموقع الثانى. وتحدث عن مفاجأة فوز حركة النهضة الإسلامية بعد أن قضى أكثر زعمائها سنوات عديدة فى السجن أو فى المنفى. كيف تحقق لها الفوز فى مواجهة نخبة سياسية ليبرالية يشهد الأجانب لها بالشعبية والقوة، وضد رغبة وتأييد الاتحاد العام للشغل الذى يضم العدد الأكبر من نقابات العمال التونسيين؟. قيل لنا فى مناسبات عديدة إنه لو اجتمعت كلمة التيارات الليبرالية واليسارية فى تونس لما حققت النهضة أو أى حزب دينى آخر هذا الفوز الكبير.
●●●
كنا قد سمعنا منذ اليوم الأول لوصولنا انتقادات للحكومات الانتقالية المتعاقبة وآخرها الحكومة التى يتصدرها الإسلاميون بسبب ما وصف بالبطء الشديد فى الانتقال بالبلاد إلى حال أحسن. سمعنا الشكوى قبل أن نسأل السؤال وحين سألنا وجدنا الإجابة سريعة وصريحة وليست ببعيدة إطلاقا عن إجابات نسمعها فى مصر على السؤال نفسه. لقد تشرذم الثوار وذهبت كل جماعة تنشئ حزبا سياسيا. أما السبب الأهم فهو أن النظام السابق الذى حكم تونس بالحديد والفساد مازال متشبثا ويرفض الرحيل أو الاعتراف بالهزيمة. أعضاؤه يعيثون فسادا وعملاؤه يخربون ويسيئون إلى سمعة الثورة والثوار. وقبل هذا وذاك، ظهرت حقيقة لم تكن غائبة تماما فى ظل النظام السابق ولكنها انكشفت أمام جميع النخب المثقفة والسياسية وأمام الرأى العام، وهى فساد جهاز القضاء.
سمعت التفاصيل من مصادر متعددة اختلفت بالزيادة أو النقصان ولكن اتفقت جميعها على أن المرحلة الانتقالية لن تتقدم، ولن يشعر الشعب بمكاسب الثورة ولن تعود الاستثمارات ومعها السياحة والعقول المهاجرة، إلا إذا تخلص أهل تونس من عقدة «هيبة القضاء» وشعار عدم المساس بالسلطة القضائية بحجة أنها أهم الأسس المكونة للدولة. يجمعون شعبا وحكومة ورئيسا على فساد منتشر فى السلطة القضائية ويتمسكون بشعار عدم المساس. لا حل إلا بإقامة جهاز جديد.
●●●
لا يخفى سياسيون تونسيون حقائق صارت معروفة للعامة ومنها مسئولية التراخى الأمنى عن بطء المرحلة الانتقالية وتعقيدات الحالة الاقتصادية والاجتماعية ولا يخفون أن اندفاع الإسلاميين لو استمر فقد يتسبب فى تباعد بين أهل البلاد وكلهم بهذه المناسبة مسلمون. يذكرون تحديدا نظرة تيارات إسلامية متشددة داخل حزب أو جهة وخارجها إلى عمل المرأة وتعليمها وتربيتها وسفرها إلى الخارج. يناقشون أيضا بانفتاح غير معهود التدخل الخارجى من جانب دول تحكمها أنظمة وقوانين إسلامية فى الشئون الداخلية لتونس، ويحذر بعضهم من إثارة نعرات قديمة ضد سلوكيات السياسيين فى بعض بلاد المشرق وبخاصة نوازعهم الديكتاتورية. ساءتهم إساءة شديدة ما نسب إلى أحد أمراء المال والجاه السعوديين من أنه قال إن الحكومات الإسلامية التى وصلت إلى الحكم فى بلاد ثورات الربيع سوف تبقى فيه لمدة أربعين عاما على اقل تقدير.
●●●
خرجت من قصر قرطاج مطمئنا إلى أن تونس، مثل مصر، وضعت أقدامها على طريق ذى اتجاه واحد، اتجاه المستقبل، ولن تعود إلى الوراء. لن تكون مسئولية المنصف مرزوقى وصول بلاده إلى بر الأمان فهو رئيس انتقالى لمدة محدودة للغاية، إنما هى مسئولية الشباب الذين رأيتهم يحيطون به، معجبين ببساطته وتواضعه ومحترمين تمسكه بكرامته تماما كما هى مسئولية شباب المملكة المغربية الذين كانوا شهودا على نمط جديد فى تعامل رئيس الوزراء مع السلطة الأعلى فى الدولة.
إنه عصر عربى جديد.