يبدو أن الأمور بين روسيا والغرب قد أخذت منعطفا جديدا يتجه نحو مزيد من العداء والصراع على الساحة الأوكرانية، فى تصعيد غير مسبوق يكاد يتجاوز جميع الخطوط الحمراء المتفق عليها.
فعند بداية الصراع فى أوكرانيا، انتهج الجيش الروسى استراتيجية قتالية على أربعة محاور أهمها محور العاصمة كييف، لكن حجم القوات الروسية- عـــــدة وعـتادا- لم يكن كافيا لتحقيق ذلك، مع تقديرات روسية غير سليمة بأن عمليات سريعة لوحدات النخبة فى الجيش الروسى والقوات الموالية لها ستكون كافية لتحقيق أهدافها. وأغفلت الحسابات الروسية أن أوكرانيا كانت طوال السنوات الماضية منخرطة فى تعاون عسكرى سرى مع الولايات المتحدة ودول حلف الأطلنطى، الأمر الذى أحدث تطورا كيفيا ملموسا فى القدرات العسكرية للقوات الأوكرانية ومقاومتها.
وفى ذات الوقت تبين ضعف التنسيق والاتصال بين قادة تشكيلات القوات الروسية، ومع تفاقم المشكلات اللوجيستية ومحدودية عدد القوات الروسية مقارنة بأعداد القوات الأوكرانية المدافعة، والتى أخذ السلاح يتدفق عليها من الغرب، فتمكنت من الصمود والمقاومة، وتم على أثر ذلك استبدال وتنحية عدد من القادة الروس.
بعدها جرى التحول لاستراتيجية عسكرية مختلفة استهدفت تحرير شرق أوكرانيا ذات الأغلبية الروسية من السكان، وهى استراتيجية أكثر واقعية ومنطقية، لكن القيادة الروسية لتحقيق ذلك أرسلت الوحدات المنسحبة من شمال أوكرانيا للقتال فى الشرق، دون معالجة لأوجه القصور أو النقص فى الذخائر والإمدادات، ومع بدء التنفيذ كانت شحنات الأسلحة الغربية قد بدأت فى التدفق بكثافة على القوات الأوكرانية، التى قاومت بقوة وشنت هجمات مضادة على القوات الروسية المجهدة.
• • •
بذلك اتخذت الولايات المتحدة ودول حلف الأطلنطى جميعها خطا ثابتا منذ بداية الحرب بإمداد أوكرانيا بالسلاح بكثافة، شرط عدم استخدامها فى ضرب مواقع فى الأراضى الروسية، فتدفقت على أوكرانيا كميات كبيرة من الأسلحة النوعية والمعدات تشمل منظومات الدفاع الجوى والدبابات والصواريخ المضادة للدبابات والمدافع المتوسطة وطويلة المدى، الأمر الذى عزز الموقف الدفاعى للقوات الأوكرانية، بل وتحولت فى كثير من القطاعات لشن الهجمات المضادة على القوات الروسية واستعادة مساحات كبيرة من الأراضى منها.
على الجانب الآخر، تبين أن أوضاع القوات الروسية المنخرطة فى العمليات العسكرية فى أوكرانيا ليست على ما يرام، وهى نتيجة حتمية لعديد من الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية، وعدم دقة التحليلات والمعلومات التى بنيت عليها، والأخطاء التنفيذية والمشكلات اللوجيستية، وهو ما عكسه قرار الرئيس بوتين بتغيير قائد العمليات الروسية فى أوكرانيا والعديد من كبار القادة والضباط واستبدالهم، وأخيرا كان الشهر الماضى بتغيير وزير الدفاع الروسى سيرجيه شويجو.
وفى تقدير كثر أن ما حدث بات لا يليق بالجيش الروسى أحد أقوى الجيوش فى العالم، مقارنة بقوات الدفاع الأوكرانية الأصغر حجما والأقل تسليحا، وبالطبع كانت لشحنات الأسلحة الغربية دورها فى مسار الحرب الدائرة، وكذلك المساعدات الاستخبارية والاستطلاع والمعلومات والتدريب الذى حظيت به أوكرانيا فى زمن قياسى، والاعتمادات والمساعدات المالية التى أخذت تتدفق عليها من الولايات المتحدة والدول الغربية.
كانت الدول الغربية، حتى تلك المرحلة تضع قيودا على استعمال أسلحتها، والاقتصار على ضرب الأهداف العسكرية الروسية داخل أوكرانيا، أو شبه جزيرة القرم، والأراضى التى ضمتها روسيا.
والشهر الماضى، وبعد أن شنت روسيا هجوما واسعا فتحت فيه جبهة جديدة وسيطرت على العديد من القرى، وباتت القوات الروسية تشكل تهديدا خطيرا لخاركيف المدينة الثانية فى أوكرانيا، الواقعة على بعد 30 كيلومترا من الحدود، أعلن مسئولو حلف الأطلنطى أنه لابد لأوكرانيا من أن تكون قادرة على تدمير أهداف عسكرية فى الجانب الآخر من الحدود، إذا أرادت أن تدافع عن نفسها، يقصدون بذلك الأراضى الروسية نفسها.
فى اجتماع حلف الأطلنطى منذ أيام صدرت موافقة الحلف للدول الأعضاء على تزويد أوكرانيا بأسلحة تمكنها من قصف المواقع المستهدفة داخل الأراضى الروسية، ومع التعقيد التكنولوجى الشديد لهذه الأسلحة، والتى تفوق قدرة الجنود الأوكران على استخدامها، يمكن مباشرة استنتاج أن من سيقوم بتشغيل هذه الأسلحة هم مهندسون وفنيون من الدول المصنعة لهذه الأسلحة.
وفى اليوم التالى تعرض موقعان للرادارات الروسية، وهما جزء من منظومة الدفاعات الروسية الاستراتيجية للإنذار المبكر، تعرضا لهجوم مصدره الأراضى الأوكرانية، وعلى أثر ذلك أعلن الرئيس بوتين دون مواربة بأن روسيا سترد بالأسلحة المناسبة ومنها الأسلحة النووية لو تطاولت أى دولة على قصف الأراضى الروسية بأسلحة طويلة المدى، وأن روسيا ستقصف مواقع هذه الأسلحة فى أوكرانيا أو غير أوكرانيا، كذلك صرح الرئيس الروسى السابق، ميدفيديف، بأن تصرفات الدول الغربية ستؤدى بها إلى الحرب.
والخطوة القادمة للغرب هى السماح باستخدام طائرات إف 16 فى الصراع الروسى الأوكرانى، حيث من المتوقع أن تحصل أوكرانيا على أكثر من 60 طائرة من هذا النوع ستقدمها النرويج والدنمارك وهولندا وبلجيكان وهى خطوة لو حدثت سيكون لها أيضا بعد خطير، وصرح وزير الخارجية الروسى لافروف بقوله: «لطالما كانت مقاتلات إف-16 هى وسيلة الإيصال الأساسية فى إطار ما يسمى بالمهام النووية المشتركة لحلف شمال الأطلنطى، لذلك لا يسعنا إلا أن نعتبر توريد هذه الأنظمة إلى نظام كييف بمثابة إشارة متعمدة من قبل الناتو فى المجال النووى».
لقد بات الوضع مؤخرا فى أوكرانيا شديد التعقيد، فالولايات المتحدة ودول حلف الأطلنطى تبذل قصارى جهدها للحيلولة دون خروج روسيا منتصرة من تلك الحرب، أو على الأقل خروجها فاشلة سياسيا فى تحقيق أهدافها واستنزافها اقتصاديا وإنهاك قدراتها بإطالة أمد الصراع.
أما روسيا من جانبها فقد باتت تهدد ضمنا بخيارات غير تقليدية فى الحرب غير مستبعدة البديل النووى دفاعا عن كيانها وأراضيها وسيادتها، وعن الأراضى التى يقطنها سكان من أصول روسية وباتت تابعة لها، وأصبح هدف روسيا الأعلى هو إبعاد حلف الأطلنطى عن الوقوف مباشرة على حدودها وتهديد أمنها من أوكرانيا بأى ثمن.
هكذا باتت الأمور تسير سيرا حثيثا نحو التصعيد من جانب الغرب الذى يختبر صبر روسيا اختبارا خطيرا بانتهاج سياسة حافة الهاوية، ويبدو أن القادم بين روسيا والغرب سيحمل فى طياته الكثير من العداء والصراع.