فى بداية حرب أكتوبر جاء عبدالقادر حاتم وزير الإعلام بأول بيان للحرب إلى رئيس الإذاعة بابا شارو «محمد محمود شعبان» الذى أمسك بالبيان الأول وتذكر مهزلة بيانات نكسة 5 يونية 1967 وتنهد قائلا لحاتم: «ثانى».. فبكى حاتم وهو يقول «والله هذه المرة بجد ــ أى بحق ــ فبكى الاثنان وأذيع البيان الأول لنصر أكتوبر بصوت المرحوم صبرى سلامة والذى شرفه الله بإذاعة معظم بيانات نصر أكتوبر، ولم تكن هذه البيانات وحدها تحمل الصدق والنصر، بل كانت مصر كلها تحمل كل هذه المعانى وقتها.. فالصدق ينتقل من البيان ومذيعه إلى القلوب والنفوس.
لقد كانت لحظات نصر أكتوبر فارقة فى تاريخ مصر ما بين هزيمة كانت تمثل أكبر فاجعة فى تاريخ مصر والعروبة.. فقد احتلت إسرائيل الدويلة الصغيرة أضعاف مساحتها بدءًا من الجولان والضفة الغربية وجنوب لبنان وسيناء وانتهاءً بالقدس الغربية ولأول مرة يحتل المسجد الأقصى وكنيسة القيامة منذ عهد صلاح الدين الأيوبى.
وزاد الهزيمة ثقلا على أجيال مثل أجيالنا أنها كانت تسمع قبلها بأيام من الإذاعة بأنه لم يبق أمام قواتنا سوى 15 كيلو لتصل إلى تل أبيب، فضلا عن خطابات الرئيس ناصر التى كانت تدغدغ عواطف الشباب بطريقة غير مسبوقة فنطير بآمالنا إلى السماء ونشعر ونحن شباب وكأننا قد حررنا القدس وإذا بنا نهوى من السماء إلى الأرض فجأة يوم الخامس من يونية.
لقد كانت الآمال التى تحدو أجيالنا تصب كلها فى أمرين هما الوحدة العربية وتحرير فلسطين، فإذا بفلسطين لا تتحرر وإذا بإسرائيل تلتهم بقية فلسطين وما حولها.
لقد أدرك جيلنا بعد ذلك أن جزءًا كبيرا من التاريخ قد تم تزييفه عمدا ومع سبق الإصرار والترصد، وأن نصر مصر على العدوان الثلاثى فى عام 1956 كان نصرا سياسيا ولم يكن نصرا عسكريا كما كان يسوق لنا، فقد تصورنا أننا قهرنا بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عسكريا وسياسيا.
نعم.. كان كفاحنا فى حرب 1956 عظيما وتضحياتنا لا حدود لها، ولكننا لم ننتصر عسكريا.
وكان الإعلان عن صواريخ ظافر وقاهر فى الستينيات مبهرا فهى التى يمكن أن تدك إسرائيل.. وكان ذلك وهمًا كبيرًا فقد تم الإعلان عن الصواريخ قبل بناء منظومة التوجيه له وهى أصعب وأدق جزء فى صناعة الصواريخ، وكان يسوق لجيلنا أننا نستطيع سحق الإسرائيليين فى ساعات معدودة مع أن الأخيرة كانت تمدها أمريكا بأحدث الأسلحة الأمريكية.
كان الإخلاص فى الستينيات كبيرا وعفة اليد متوافرة والزهد فى المال العام موجود.. ولكن كل الحريات العامة غائبة والديمقراطية لا وجود لها.. والعمل المدنى ميت، كانت العاطفة غلابة والشوق لتحرير القدس لا يعادله شوق لدى جيلنا، ولكن ليست بالأشواق تتحقق آمال الأمم.
كان صوتنا قبل 1967 أعلى بكثير من إمكانياتنا، كنا نزعق باستمرار، ونهتف على طول الخط.. وجهد حناجرنا أقوى من عملنا أو جهد عقولنا.
كانت مؤهلات القيادة هى الولاء للثورة أكثر من الكفاءة والمهنية إلا فيما ندر.. وضربت كل طائراتنا على الأرض فى حرب 1956 فلم يحاسب أو يعاقب أو يراجع أحد على ذلك.. فتكرر هذا الأمر بحذافيره فى 5 يونية 1967.. ودمر سلاح الجو المصرى مرتين بنفس الخطأ.
أما بعد الهزيمة وفى نصر أكتوبر فكان الصمت طويلا والعمل بليغا وقويا ودقيقا وعلميا منهجيا، كانت القيادة محترفة متفرغة لا تنشغل بنادى الزمالك أو بالصلح بين عبدالحليم وأم كلثوم، ولا بشئون الاحتفالات والحفلات.
كان القادة العظام قد تبوأوا سدة القيادة أمثال: أحمد إسماعيل، الشاذلى، الجمسى، محمد على فهمى، مبارك، عبدالمنعم خليل، وواصل، سعد مأمون، عبدالمنعم رياض، محمد فوزى.. لا يكادون يذهبون إلى بيوتهم، حرفتهم القتال فقط، يعيشون للنصر أو الشهادة، يطورون فى كل شىء ويعالجون كل مشكلة، يعملون ولا يتكلمون، يقدسون النظام، لا يتعاملون مع الجيش تعامل المعلم مع صبيانه، ولكن تعامل القائد المحترف مع مرءوسيه.. فظهر قادة عظام من أجيال أخرى أمثال: أحمد الزمر، إبراهيم الرفاعى، أبو غزالة، عفيفى، قابيل، إبراهيم العرابى.
لقد كان نصر أكتوبر لحظة فارقة فى تاريخ مصر فحل الأمل والنصر ورحل اليأس والهزيمة، فلأول مرة فى تاريخ مصر لم تسجل أقسام الشرطة حادثا واحدا، وهذا لم يتكرر إلا فى الأيام الأولى لثورة 25 يناير، فى كلتا الحالتين تحولت مصر وقتها للمدينة الفاضلة، ولكن بعد حرب أكتوبر بقيت كما هى مدينة فاضلة أما بعد شهر من 25 يناير فقد بدأ الخراب والسرقات والسطو المسلح وحرق المؤسسات ينتشر فى مصر انتشار النار فى الهشيم.
وأثناء الحرب بدأ الشباب يذهب إلى الجرحى يواسيهم، وإلى أهل الشهداء لتعزيتهم، فقد كان فى كل بيت جريح أو مقاتل أو شهيد.. وكان الرضا يغمر القلوب والبيوت.. وكان جميع الشباب وقتها يختلف جذريا عن شباب اليوم فى كل شيء.
نصر أكتوبر العظيم هو أعظم حسنات الرئيس السادات.. ولو أنه لم يصنع شيئا فى حياته سواه لكفاه وأغناه وأعزه فى الدنيا والآخرة، ومعظم الذين ينتقدونه من الحكام العرب وأتباعهم فشلوا فى الحرب والسلام فلم ينتصروا فى الحرب ولم يبيعوا جاههم من أجل السلام فلا أدركوا هذه ولا تلك.
وبعضهم أراد أن يزوّر التاريخ فيحول نصر أكتوبر إلى هزيمة سياسية ويحول هزيمة يونية إلى نصر سياسى، رغم أنف كل الذين عاشوا هذه الأيام.. ويسوى بين معركة كانت سببا فى احتلال سيناء وأخرى كانت سببا فى تحريرها.
وحسنة نصر أكتوبر العظيمة تجب لأصحابها ومنهم الرئيس السادات أى خطأ سياسى.. وللسادات حسنات عظيمة أخرى منها: الإفراج عن المعتقلين وإغلاق السجون وإلغاء الطوارئ وتحرير الأرض، فضلا عن الرفاهية الكبيرة وبداية نمو الاقتصاد المصرى فى عهده ووقف أخذ الناس بالشبهات ووقف التعذيب وكل هذه حسنات كبرى تغفر أى هنة سياسية مثل التحفظ الذى أجراه فى آخر عمره.
إن الله يعطى النصر لمن يستحقه ويحجبه عمن لم يتأهل له، والله لا يجامل المؤمنين لإيمانهم ولا يظلم غيرهم كذلك، فللنصر شروط وللهزيمة أسباب، ومن أخذ بأسباب النصر انتصر حتى لو كان غير مؤمن، ومن أخذ بأسباب الهزيمة انهزم حتى لو كان مؤمنا.
وقد استجمعت مصر شرائط النصر فى حرب 6 أكتوبر وبذلت كل جهدها وعرقها ودمائها من أجل هذا النصر، وأحسب أن حيل أكتوبر وقادته لن يتكرروا بذلا وعطاءً جهدا وعرقا وتضحيات جسام، ويكفى أن هؤلاء الجنود الذين عبروا القناة ظلوا أكثر من سبع سنوات كاملة فى تدريب واستعداد متواصل للحرب، وكنت تسمع عن جندى حاصل على 8 فرق عسكرية مثل المشاة، الأسلحة الخفيفة، الصواريخ المضادة للدبابات، والصاعقة، الهاون، الدبابات البرمائية، المشاة الميكانيكي.. إلخ، وذلك فى جندى واحد فما بالنا بالضباط وضباط الصف، وكلهم أبلى فى المعركة بلاءً حسنا.
قادة أكتوبر لم ينالوا من حظوظ الدنيا شيئا، وكان مرتباتهم أشبه بالملاليم فى عصرنا، وكانوا زهادا فى الدنيا، ويكفى أن المشير أحمد اسماعيل وزير الدفاع وقت النصر مات فى نفس الشقة التى تزوج فيها وهو نقيب بنفس الأثاث القديم لم يجدد منه شيئا، هؤلاء عاشوا لله وللوطن، وقدموا كل شيء فداءً له.
رحم الله أبطال أكتوبر جميعا، ورحم الله عبدالناصر الذى أعاد بناء الجيش المصرى بعد هزيمة 5 يونية على أسس علمية واحترافية رائعة مهدت لنصر أكتوبر.. ورحم الله السادات الذى ظلمه الإسلاميون واليساريون والناصريون والاشتراكيون وبعض المثقفين والقوميين وكل الإيرانيين.