الدولة ليست شركة! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 11 فبراير 2025 3:27 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الدولة ليست شركة!

نشر فى : الإثنين 10 فبراير 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : الإثنين 10 فبراير 2025 - 7:20 م

تحت هذا العنوان كتب الاقتصادى الأمريكى الشهير «بول كروجمان» مقالاً متميزا عام 1996 ذكّرنى به منذ أيام صديقى الاقتصادى الدكتور محمد فؤاد.المقال يرد على فكرة بدائية مفادها أن رجل الأعمال الناجح لا يملك بالضرورة مفاتيح الحل لإدارة اقتصاد دولة. تلك الخرافة ترددت أصداؤها بقوة لدى الترشيح الأول للرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» والذى توهّم مناصروه أن قدرته على تحقيق تراكم للثروات من خلال شركاته تمكّنه من تحقيق نجاحات مماثلة فى إدارة الاقتصاد الأمريكى.
المقولة ذاتها تجد لها العديد من المؤيدين فى مساحات التواصل الاجتماعى التى كثيرا ما تتزاحم فيها دعوات العوام بترك الدولة لرجال الأعمال الناجحين لإدارتها بذات الكيفية التى تدار بها شركاتهم. وعلى الرغم من انحيازى لمبدأ تمكين القطاع الخاص، وعدم مزاحمة مؤسسات الدولة لهم فى نشاطهم الذى يبرعون فيه، فإننى وبالقدر نفسه أنحاز إلى رؤية «كروجمان» فى ضرورة التمييز بين ما يصلح شأن الشركات وما يصلح شأن اقتصادات الدول. صحيح أن آلية عمل اليد الخفية تحقق «نظريا» مصلحة المجتمع بينما يسعى الفرد لتحقيق أهدافه، لكن نجاح تلك الآلية مشروط باتساع السوق وتعدد اللاعبين فيه وحرية المنافسة وعدالة التشريع والتنظيم..وهى أشياء يتعين على الدولة ضمانها وتستلزم مهارات محددة لإنجازها لا تتماهى مع المهارات المطلوبة فى رجل الأعمال الناجح.
كذلك يحكم الاقتصاد الكلى عدد من التوازنات التى لا تعرفها الشركات، فالاقتصاد الذى يجتذب الكثير من تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر عادة ما تحقق عجزا فى ميزانها التجارى، إذ إن تلك التدفقات لابد وأن تكون مصحوبة باستيراد مختلف احتياجاتها من الخارج، خاصة إذا كان الإنتاج المحلى محدودا، وتعانى الدولة من نقص فى الإنتاج السلعى الرأسمالى. تخيل معى مستثمرا أجنبيا يأتى إلى مصر لإقامة وتشغيل مصانع للسيارات، هذا أمر جيد، خاصة إذا كان الادخار المحلى محدودا، وكان لابد من سد الفجوة بين الادخار والاستثمار بجذب الاستثمارات من الخارج. لكن وحده الاقتصادى يدرك المخاطر المصاحبة لهذا النوع من التدفقات، والتى لابد وأن يترتب عليها عجزا (أو بالأحرى مزيد من العجز) فى ميزان التجارة السلعى، إذ إن المصانع سوف تحتاج إلى مستلزمات إنتاج ومدخلات مستوردة من الخارج، بما يضغط على العملة الصعبة فى البلاد، فإذا كانت الدولة تتبع نظاما مرنا لسعر الصرف فسوق تفقد العملة الوطنية قيمتها مقابل عملة الاستيراد طوال فترة الإنشاء على الأقل، وقبل القيام بأى نوع من التصدير (إن كان مخططا). أما إذا كانت السياسة النقدية فى الدولة تمارس ضربا من التثبيت والإدارة الجامدة لسعر الصرف، فسوف ترتفع معدلات التضخم وتظهر السوق الموازية وفى كل الأحوال ستكون الدولة مسقبلة للواردات بصورة كبيرة، ويكون العجز فى ميزان التجارة حتميا. يضرب «كروجمان» مثلاً بالمكسيك فى ثمانينيات القرن الماضى، حيث لم تكن جاذبة للاستثمار، لكنها كانت تملك فائضا فى ميزانها التجارى، لكن بعد عام 1989 بدأت الاستثمارات الأجنبية تتدفق إلى المكسيك، وسط توقعات إيجابية بشأن اقتصادها، وقد توجّه جانب من تلك التدفقات نحو استيراد مستلزمات إنشاء وتجهيز المصانع، وجانب آخر معتبر امتصته الواردات من المنتجات النهائية، وفى النهاية تسبب ذلك فى أن أصبحت العملة المكسيكية «البيزو» مقوّمة بأعلى من قيمتها الحقيقية، وهو ما ثبّط الصادرات، ودفع المزيد من المكسيكيين إلى الاعتماد على الاستيراد. ومع ذات الدولة ولكن فى ديسمبر من العام 1994 وقعت أزمة العملة فى المكسيك، وانسحبت الاستثمارات الأجنبية، وهنا فقط عاد ميزان التجارة إلى وضع الفائض، ولكن بفاتورة باهظة.
لا يفهم من كلام «كروجمان» أو من يستشهد به العزوف عن اجتذاب الاستثمار الأجنبى، ولكن التفكير بعقلية الاقتصادى، يجعلك فى رحلة دائمة لإيجاد الوضع التوازنى. فى مثال اجتذاب تدفقات رءوس الأموال يفكر رجل الأعمال فى أن هذا يشجع الإنتاج والتصدير ويخلق فرص العمل، لكن وحده الاقتصادى، ينظر بعين الاعتبار إلى مخاطر العجز الحتمى فى ميزان التجارة، وقد يرى سوق العمل مغلقة يترتب على خلقها فرص مقترنة بالتصدير فقدا لوظائف أخرى، خاصة إذا انتهى الحال بزيادة أكبر فى الواردات وعجز خارجى متزايد.
يذهب «كروجمان» إلى أن رجل الأعمال الناجح لم يحقق نجاحه لاكتشافه نظرية جديدة فى مجال عمله! بل لاتباعه الكثير من الحدس والإبداع واكتشاف استراتيجيات جديدة لإنتاج وتسويق سلعته أو خدمته. بل إن العديد من أصحاب الثروات، أمثال «جورج سوروس» و«وارن بافيت»، لم يحققوا ثرواتهم باتباع الدروس المنمّقة التى يسردونها فى قصص نجاحهم، فقد ساعدهم الابتكار والمرونة على النجاح، وهى مهارات قد لا تساعدهم على إدارة اقتصاد دولة كبيرة إن غاب عنها الرؤية الشاملة، والتوازنات الاقتصادية.
الاقتصاد قائم على الخيارات والمحفّزات، وكل خيار اقتصادى تنشأ عنه نتائج مختلفة يجب الاستعداد لها بحزمة من القرارات والسياسات. وعندما تم الاتفاق على صفقة رأس الحكمة قاطعت الاحتفال بنجاح الصفقة بأسئلة ضرورية عن أثرها متوسط وطويل الأجل على ميزان التجارة الذى يعانى عجزا مزمنا بالفعل. فالمشروعات الكبرى التى يعتزم الشريك الإماراتى إقامتها فى منطقة رأس الحكمة ستحتاج إلى خطوط إنتاج وأدوات وخامات مستوردة، ولذا ناديت (وأنادى وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية) بالاستعداد لتلك المخاطر بتوطين مستلزمات الإنتاج لتلك المشروعات، وهذا لا يحدث إلا بمسح عملى تفصيلى لمختلف الانشطة المزمع إقامتها. كذلك لابد لتأهيل العمالة المحلية على اختلاف تخصصاتها فى مجالات التصنيع والسياحة والفندقة..لإعداد سلة من المدخلات والمهارات ومختلف عوامل الإنتاج محلية المنشأ، لتكون فى خدمة مشروعات رأس الحكمة وغيرها.. بما لا يحوّل نعمة التدفقات الراسمالية إلى نقمة العجز التجارى وفقدان فرص العمل لصالح مهارات مستوردة من الخارج. هذا سبب إضافى للاحتفاء بدمج وزارة الاستثمار فى التجارة الخارجية، خاصة وأن رؤية تحفيز وتنمية الاستثمار بالاتساق مع سياسة تجارية رشيدة ستكون فى عهدة فريق عمل واحد.
الاستعداد هو كلمة السر إذن فى هذا السياق، وهو الذى يمكن للاقتصاديين إتقانه بشكل أكبر من رجال الأعمال، نظرا لطبيعة تأهيلهم وتكوينهم العلمى والعملى. ويتحقق الاستعداد بكفاءة عالية إذا ما كانت سيناريوهات تقيم أثر الأحداث والقرارات والسياسات.. تتم عبر نموذج للتوازن العام. وهذا النموذج يجب أن يتوافر بنسخته المحدّثة فى وزارة التخطيط والتعاون الدولى والتنمية الاقتصادية. نماذج التوازن العام هى مجموعة من المعادلات الدقيقة المؤسسة على تشابكات القطاعات المختلفة داخل الاقتصاد، وهى قائمة على خلفية نظرية ومرونات دقيقة لمصفوفة الحسابات الاجتماعية وتحديدا جدول المدخلات والمخرجات. يحتاج الاقتصاديون إلى تصميم صدمة ما فى أسعار الطاقة (مثلاً) حتى يعرض نموذج التوازن العام الأثر القطاعى لتلك الصدمة والأثر النهائى الصافى على الناتج المحلى الإجمالى، وهذا يجعل الاستعداد مدعما بتنبؤات علمية محكمة.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات