من وجهة النظر الأمريكية تعد قناة بنما أحد المحاور البحرية الاستراتيجية التى يتوجب الحفاظ عليها على الدوام تحت السيطرة الأمريكية والحيلولة دون تمكن أى دولة أخرى من امتلاك نفوذ أو تحكم فيها لاعتبارات استراتيجية وسياسية واقتصادية متعددة ترتبط بالأمن القومى الأمريكى.
الولايات المتحدة هى أكبر مستخدم لقناة بنما،حيث تمثل السفن الأمريكية 73% من السفن العابرة لها، ومن جهة أخرى، فالقناة ذات أهمية استراتيجية وعسكرية كبرى لتحرك فرقاطات ومدمرات وبارجات الأساطيل البحرية الأمريكية بين المحيط الأطلنطى والمحيط الهادى، لا سيما أنها دولة بحرية كبرى تعتمد فى قوتها الضاربة على انتشار سفن أسطولها الحربى وتحركاته، خاصة فى أوقات الأزمات والحروب.
• • •
الولايات المتحدة تعتبر أنها مؤسس قناة بنما، ففى عام 1903 وقعت معاهدة مع دولة بنما اتفاقية لتنفيذ مشروع القناة بتكلفة 380 مليون دولار، وقضت المعاهدة بأن تدفع الولايات المتحدة لبنما جزءًا من إيرادات القناة، وتضمن حماية القناة وحيادها، وتم بالفعل افتتاح القناة عام 1914.
وفى عام 1977 وقع الرئيس الأمريكى كارتر ورئيس بنما عمر توريخوس معاهدتين، الأولى تقضى بتسليم تدريجى للقناة إلى السيادة البانامية، والثانية تحدد ضوابط حياد القناة، وفى ديسمبر 1999 تسلمت بنما رسميًا السيطرة الكاملة على القناة، منهية بذلك قرابة 100 عام من السيطرة الأمريكية المباشرة عليها.
• • •
اليوم الرئيس ترامب الذى جاء بإدارة تحمل أقصى قدر من التشدد تجاه الصين، أشار إلى أن إدارة قناة بنما يجب أن تكون لبنما وحدها، لا إلى الصين ولا إلى أى دولة أخرى، وأضاف أن الولايات المتحدة لن تدع القناة أبدًا تقع فى الأيدى الخطأ، وأنه إذا لم تتم تلبية مطالبه بشأن إدارة القناة، فإن الولايات المتحدة ستسعى إلى إعادة القناة إلى حوذة الولايات المتحدة.
كما تضمنت تصريحات الرئيس ترامب إشارة إلى الرسوم التى تدفعها السفن الأمريكية للعبور، ويبدو أنها أحد الذرائع الاستباقية الأمريكية لتمهيد التدخل للسيطرة على القناة، وهى فى الوقت ذاته تتضمن مطلبًا انتهازيًا ضمنيًا بأن تقدم إدارة قناة بنما معاملة مميزة للسفن الأمريكية بتخفيض رسوم العبور التى تدفعها.
وزير الخارجية الأميركى الجديد، مارك روبيو، كانت أول زيارة خارجية له إلى بنما، حيث أكد حكومتها بأن الرئيس ترامب يرى فى تنامى النفوذ الصينى فى بنما أمرًا غير مقبول، وأنه إذا لم تُجرَ تغييرات فورية فإن الأمر سيتطلب من الولايات المتحدة اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية حقوقها بموجب معاهدة الحياد الموقعة بين بنما والولايات المتحدة 1977.
هذا التصعيد الأمريكى يرتبط حتمًا بمحاذير رصدتها الأجهزة الاستخبارية الأمريكية بشأن توسع النفوذ والمشروعات الصينية فى البنية التحتية الاستراتيجية للتجارة العالمية فى إطار مبادرة الحزام والطريق الاستراتيجية للصين، والتى تضمنت استثمارات هائلة فى مشروعات البنية الأساسية الممولة من الصين والقروض المقدمة لحكومات الدول المنضمة للمبادرة فى جميع أنحاء العالم.
فالصين التى تستثمر فى العديد من المشروعات والقطاعات والموانئ البحرية فى عدة دول فى أمريكا الوسطى واللاتينية، باتت الولايات المتحدة تتوجس منها خيفة وحذرًا، فأمريكا الوسطى واللاتينية هى الساحة الخلفية للولايات المتحدة، ووجود دولة قوية مثل الصين فيها بمشروعات استثمارية واقتصادية طموحة يثير حتمًا قلق الولايات المتحدة.
فى بنما أيضًا يبدو أن الأجهزة الاستخبارية الأمريكية قد رصدت وجود درجة عالية من وجهات النظر الإيجابية عند المسئولين والمواطنين الباناميين تجاه الصين، كما أن بنما تضم أكبر عدد من الصينيين بين دول أمريكا الوسطى، من جهة أخرى فقد أثارت خطط الصين لبناء سفارة جديدة فى موقع يطل على مدخل القناة حنق وغضب الأمريكيين، الأمر الذى دفع الولايات المتحدة للضغط على الحكومة البانامية لعدم السماح للصينيين ببناء سفارتهم الجديدة فى ذلك الموقع.
• • •
واقع الأمر أن الصين لا تسيطر سياسيًا أو عسكريًا على دولة بنما، لكن حضورها الاقتصادى والاستثمارى القوى فى اقتصاد بنما يرتبط بمساهمتها فى مشروعات توسعة القناة وزيادة طاقاتها الاستيعابية، فضلًا عن أن شركة هوتشيسون هولدينجز العملاقة ومقرها هونج كونج، قد دخلت فى مشروعات شراكة وإدارة استراتيجية مع أهم ميناءين لبنما، وهما ميناء بالبوا وميناء كريستوبال اللذان يقعان على مدخلى القناة، فضلًا عن انضمام بنما لمبادرة الحزام والطريق الاستراتيجية الصينية، والذى مَثل ذروة التعاون بينهما.
وبناء على كل ما سبق جاءت تصريحات الرئيس ترامب بمثابة تحذير صارم وخطوة حاسمة تجاه الصين وبنما، تجاه الصين بأن الولايات المتحدة غير راضية عن ذلك التوسع الصينى فى أمريكا الوسطى والجنوبية، ولا سيما أن البرازيل الدولة الكبرى فى أمريكا الجنوبية هى عضو مع الصين فى اتفاقية بريكس التى تستهدف فى جوهرها تقليص النفوذ الأمريكى الفاعل فى الاقتصاد العالمى.
كما أن الولايات المتحدة أيضًا من خلال تصريحات ترامب تبدو شديدة القلق من عضوية بنما فى مبادرة الحزام والطريق الاستراتيجية للصين، والتى تعول عليها الصين كثيرًا فى إقامة محاور وممرات تجارية كبرى للاقتصاد الصينى حول العالم، فى مقدمتها قناة بنما.
وقد فهمت بنما الرسالة التى تضمنت تهديدًا مباشرًا من الرئيس الأمريكى بأن الولايات المتحدة قد تلجأ للتدخل العسكرى المباشر للسيطرة على القناة، فسارع رئيس بنما بالتصريح بأن أسباب زيادة رسوم العبور تعود إلى أن القناة تواجه تحدى انخفاض مستويات المياه نتيجة التغير المناخى فزادت الرسوم لمواجهة تلك التحديات، كما أكد عدم وجود سيطرة أو مشاركة صينية فى إدارة القناة، وأعلن قراره بانسحاب بنما من مبادرة الحزام والطريق الصينية.
الصين التى تلقت ذلك الخبر بمزيد من الأسف، تأكد لديها اليوم أن السياسات التى سينتهجها الرئيس ترامب تجاهها بدأت بتلك الضربة القوية لمبادرة الحزام والطريق الاستراتيجية، وهى حتمًا سيتبعها المزيد من الإجراءات والقرارات لمواجهة التنامى الاقتصادى الصينى الهائل، والذى تعتبره الولايات المتحدة انتقاصًا من مكانتها وتحديًا لها.
وما ستأتى به الأيام المقبلة سيكون أخطر فعلًا وأعظم تأثيرًا، لا سيما أن إدارة الرئيس ترامب استهلت عهدها بإجراءات لم تستثنِ بها أحدًا، فكانت إجراءاتها الحادة تجاه جارتيها كندا والمكسيك، الأمر الذى جعل العالم كله يتساءل إن كان ذلك مسلكها تجاه أقرب الجيران والأصدقاء، فماذا سيكون مسلكها تجاه المنافسين والخصوم؟