أمريكا.. مرآة أوروبا المكسورة - مواقع عربية - بوابة الشروق
السبت 19 أبريل 2025 2:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أمريكا.. مرآة أوروبا المكسورة

نشر فى : الجمعة 18 أبريل 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : الجمعة 18 أبريل 2025 - 7:50 م

 لطالما كانت الولايات المتحدة فى اللاوعى الأوروبى الجمعى امتدادا جغرافيا ومعنويًا للمغامرة الأوروبية، خيالا مفتوحا نحو المستقبل، ومختبرا واقعيا لما كانت أوروبا تتصوره عن ذاتها خارج تاريخها.

رأت فرنسا ثورتها فى الولايات المتحدة وقد عبرت المحيط، واعتبرتها بريطانيا ابنتها الاقتصادية المتمرّدة، بينما وجدت فيها ألمانيا نموذجا ناجحا للبرجوازية الحديثة، وباركتها إيطاليا بمهاجريها وقباطنتها وحتى عصاباتها.

غير أن هذه النظرة الحنونة لم تدم طويلا. تحولت أمريكا، بمرور الزمن، إلى قوة ندّية ثم إلى كيان متعال، وأخيرا إلى ما يشبه الابن العاق الذى انفصل عن تاريخه العائلى. هذا التحول لم يكن مجرد انتقال فى توازنات القوى، بل كان شرخا نفسيا فى عمق الأنا الأوروبية، التى لطالما اعتبرت نفسها مركز التاريخ ومصدر القيم والمعنى.

فى الحقبة الاستعمارية، كانت أوروبا هى التى تخوض البحار؛ تكتشف المجهول، وتعيد ترسيم الجغرافيا بلغاتها ومصالحها. من كولومبوس إلى كابتن كوك، كانت الإمبراطوريات تُبنى على إيقاع المغامرة الأوروبية. لكن بعد الحربين العالميتين تغيرت قواعد اللعبة. تقدمت أمريكا إلى الواجهة، لا بصفتها امتدادًا رمزيًا لأوروبا، بل قوة مستقلة تنحت شكل العالم بلغتها، وتدير النظام الدولى وفق إيقاعها الخاص. عندما تحدّث جورج بوش الابن عن فرنسا وألمانيا الرافضتين لغزو العراق عام 2003، لم يُخفِ احتقاره لما وصفه بـ«تأخرهم عن التاريخ»، مؤكدًا أن الولايات المتحدة تمضى قدما وحدها. لم يكن هذا مجرد تصريح سياسى، بل إعلان انفصال وجدانى عميق: أمريكا لم تعد ترى أوروبا شريكة حضارية، بل عبئا تقليديا، أمًا مسنّة كثيرة الشكوى. وكل ما تلا ذلك من انسحابات من اتفاقيات دولية، وتجاهل واشنطن لالتزاماتها فى «الناتو»، وصولًا إلى إذلال الحلفاء الأوروبيين فى العلن، لم يكن سوى التطبيق الفعلى لنظرية «قتل الأب» الفرويدية.

فرويد، فى «الطوطم والتابو»، يشرح أن الفرد لا يُنتج هويته إلا من خلال تمرّد رمزى على الأب المؤسس؛ تمرّدٌ لا يخلو من الحب، لكنه ضرورى لكى تتكوّن الذات. ومع لحظة القطيعة، يظهر الصراع الداخلى بين الذنب والحرية، بين الحنين والانفصال.

ما يحدث، اليوم، بين أوروبا وأمريكا يُحاكى هذا الميكانيزم بوضوح لافت للانتباه. فأمريكا ليست فقط دولة انفصلت عن القارة الأم، بل هى صورة أوروبا وقد تخلت عن ماضيها. لا ذاكرة استعمارية ثقيلة؛ لا عقدة مسيحية؛ ولا توتر فكرى مزمن. كما قال أومبرتو إيكو: أمريكا هى «المستقبل الذى انفلت من التاريخ»، بينما تبدو أوروبا، التى رسمت خرائط الكوكب، كمن فقد خياله ويبحث عن معنى فى خطب هابرماس أو توجس ماكرون. أمريكا تتصرف كذات مكتفية، وأوروبا تقف على رصيف التاريخ تتساءل إن كانت ما تزال ذاتا أصلا.

هنا يظهر الانشقاق العميق بين الحضارة كمعنى، والقوة كأداة. أوروبا صنعت العقلانية، التنوير، الفن، الشك، والذات المفكرة. بينما أخذت أمريكا هذه الأدوات وجردتها من بعدها الروحى، فأنتجت حضارة ذات قشرة صلبة بلا قلب. عقل بلا قلق؛ قوة بلا تأمل؛ حرية بلا ذاكرة. هذا التوتر لا ينبع من الاختلاف، بل من التشابه المشوَّه.

أوروبا لا تخاف من أمريكا لأنها «أخرى»، بل لأنها تشبهها بشكل خطير، ولكن دون أعماقها. كما قال ميشال روكار، «أمريكا تتحدث باسم القيم التى اخترعتها أوروبا، لكنها تقتل بها روح أوروبا نفسها». إنها تتحدث باسم العقلانية، لكنها تسوّقها كسلاح. باسم الحرية، لكنها توظفها كأداة هيمنة. وهنا يكمن الجرح الرمزى: أوروبا ترى فى أمريكا كل ما تخلّت عنه، وتشعر أنها خلقت وحشا لا وريثا.

أزمة أوروبا اليوم إذًا ليست فقط مادية أو سياسية، بل هى أزمة هوية روحية -حضارية. بدل أن تسعى إلى استعادة المبادرة، تنكفئ أوروبا إلى ماضيها، تغرق فى تأملاتها، وتُفرط فى جلد ذاتها. كأنها تفضّل أن تراقب انهيار العالم بشاعرية نيتشوية، بدل أن تساهم فى تغييره. وربما يكمن المخرج، كما لمح بيير نورا، فى إعادة إحياء «ذاكرة أوروبا الحية»، لا كنوستالجيا، بل كقوة اقتراحية.

على أوروبا ألا تُقلد أمريكا، ولا أن تنافسها على الهيمنة، بل أن تستعيد إيمانها بأن المعنى أعمق من السيطرة، وأن السردية الحضارية ما تزال ممكنة إذا ما حرّكت خيالها مرة أخرى. لن يحدث هذا ما دامت ترى فى أمريكا مجرد ابنة وقحة. على أوروبا أن تعترف بأن الأبوة التاريخية لم تعد تعنى شيئًا، وأن العالم لم يعد يُصاغ من باريس أو برلين أو لندن. إن أرادت أن تحيا من جديد، فعليها أن تروى قصة جديدة، لا تقوم على الذكرى بل على الجرأة.

لقد اكتشفت أوروبا أمريكا يومًا ما، لكنها عجزت عن تخيّل أنها ستتمرّد، بل وتحتقرها أحيانًا. إن أزمة الأنا الأوروبية اليوم لا تكمن فقط فى ما أصبحت عليه، بل فى ما لم تعد قادرة على أن تكونه.. ولعل الاعتراف بهذه الحقيقة هو أول الطريق نحو استعادة المعنى.

 

عبدالحليم حمود

موقع  180

النص الأصلى:

 

 

التعليقات