أسمع صخبا حول العلاقات المصرية التركية، صخب يضر مصر وسياستها الخارجية ولا ينفع الصاخبين إلا قليلا. أشد ما يؤذى السمع فى هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة هو الدعوة الصاخبة إلى قطع العلاقات السياسية مع تركيا.
انتهى زمن كانت فيه هذه الدعوة تجلب أحيانا لأصحابها شعبية وللسياسة الخارجية طاقة وقوة دفع إضافية. لم تعد العلاقات الدبلوماسية الركن الأهم بين مجمل العلاقات التى تربط بين بلدين. فإلى جانب الاعتماد المتزايد على العلاقات التجارية والاستثمارات المتبادلة والعمالة والخبرات المنتقلة أصبحت الشعوب، وبخاصة الطبقات الوسطى فيها، تتفاعل وبكثافة غير معهودة عبر وسائط اجتماعية متعددة تتجاوز بها الحساسيات والقيود البيروقرطية والنظرة الضيقة للأمن، وعبر تسهيلات السياحة ووسائل النقل السريعة.
لا أقلل من شأن الموقف السياسى الذى اتخذته حكومة حزب العدالة والتنمية من الحكومة الانتقالية فى مصر فى أعقاب إزاحة رئيس حزب الحرية والعدالة عن منصبه كرئيس لمصر، ولا أقلل من قدر غضب بعض المسئولين المصريين وبعض قادة عشرات الجزر المتناثرة التى تشكل فى كليتهما ما يسمى بالجماعة السياسية المصرية بسبب تصريحات السيد إردوغان وأكثرها يسىء الى مكانته ومكانة تركيا. ولا أقلل من حاجة بعض أجهزة الإعلام فى مصر،العام والخاص على حد سواء، إلى قضية خارجية لتملأ بالحديث فيها جانبا من فراغ المرحلة الراهنة.
لا أقلل من أهمية هذه الأمور، وأعترف باننى اتفهم الكثير منها، وأعرف ان هناك فى الخارجية المصرية من يدرك أن كثيرا من مصالحنا فى سوريا ومستقبلها يلتقى مع مصالح الدولة التركية، بل ومع اقتناعات ومواقف عدد معتبر من قادة الحزب الحاكم هناك. هناك مصلحة مشتركة لمصر وتركيا فى أن لا نرى سوريا وقد تحولت إلى أفغانستان أخرى تطل على البحر المتوسط، ترعى فيها وتترعرع قوى الإرهاب الإسلامى وفصائله المتنوعة والجديدة دائما. وهناك مصلحة مشتركة فى أن تبقى سوريا دولة موحدة فى ظل حكومة قوية لتمنع انفراط العراق ولبنان ومناطق شاسعة من جنوب وجنوب شرقى تركيا، ولتمنع إقامة قواعد إرهابية تهدد أمن وسلام قوقاز روسيا.
ومع ذلك، أخشى ان يكون فى الحكومة الانتقالية الحاكمة فى مصر تيار يسعى لكسب شعبية ولو مؤقتة، عن طريق الدعوة وبصخب وإلحاح لاتخاذ إجراء يتصور خطأ انه لن يكلف مصر كثيرا، إجراء يمهد لقطع العلاقات مع تركيا وإثيوبيا ودول أفريقية أساءت فهم ما وقع فى مصر، وربما قطع العلاقات أيضا مع دول عربية تعودت ممارسة الضغط على مصر بقناة تليفزيونية. بل سمعت من يدعو لقطع العلاقات السياسية مع دولة عربية أخرى غارقة فى هموم من نوع همومنا لمجرد أن أحد زعمائها تصرف، على غير عادات بلاده، بديماجوجية مستوحاة من مزاعم ايديولوجية طارئة على بلاده.
لا حاجة لقطع العلاقات السياسية أو حتى الدبلوماسية مع دول بدت لنا تصرفاتها غير ودية. مصر، مثل دول كثيرة، لديها من أدوات العمل الدولى والإعلامى والسياسى والشعبى، ما يغنيها عن اللجوء إلى أداة «بدائية» فى العلاقات الدولية تضر مستخدمها سمعة وكرامة وأمنا أكثر من أى ضرر يمكن أن يؤذى الطرف الآخر.
فلتكن المرحلة الانتقالية الراهنة مصدرا إرشاديا متحضرا ليس فقط فى مجالات التخطيط والتنمية الاقتصادية ولكن أيضا فى مجالات السياسة الخارجية وحماية المصالح القومية. هكذا تكسب السياسة الخارجية صدقية حرمت منها طويلا وتعود لها القدرة على التأثير إقليميا ودوليا.