طائرات وطيارون وحكايات سفر - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:27 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طائرات وطيارون وحكايات سفر

نشر فى : الأربعاء 11 نوفمبر 2015 - 12:35 ص | آخر تحديث : الأربعاء 11 نوفمبر 2015 - 12:35 ص

أثار حادث طائرة شرم الشيخ أزمة متعددة الزوايا والخطوط. تداخلت فيها نظريات المؤامرة مع أحاديث الإرهاب والتطرف الإسلامى وصراعات القوة بين الكبار مع روايات الإهمال والفساد مع انباء عن تطور علاقات الدولار بالروبل واليوان والجنيه المصرى مع ابهارات تفجرها كل يوم عبقرية أجهزة المخابرات وفنون المراقبة بالأقمار الصناعية وأجهزة الاتصال الالكترونى. لم يفتنا نحن المصريين أن نعلنها حربا إعلامية ضد الصحافة الغربية وضد بعضنا البعض، وبخاصة بين الحكومة ومعارضيها.

***
أثار الحادث أيضا عندى شخصيا ذكريات عن علاقة طويلة الأجل قامت بينى وبين عالم الطيران. كنت صبيا فى العاشرة من عمرى عندما استضافنى مدرب طيران فى رحلة تدريب طيران مدنى فوق مطار ألماظة. كانت النزهة مصدرا لروايات عن متعة الطيران فوق الأهرام وأبى الهول والنهر الأسمر، عشت أرويها لزملائى فى المدرسة وأصدقائى فى الحى شهورا عديدة. أما أول رحلة طيران تجارى قمت بها إلى خارج مصر فكانت إلى بيروت فى أول مهمة دبلوماسية. كنت تجاوزت الحادية والعشرين من العمر بشهور معدودة عندما كلفت بالسفر إلى الهند. قضيت فى بيروت ليلتين انتظارا لطائرة تقلنى إلى الهند. أعترف الآن أنه فى هاتين الليلتين وقعت فى حب لبنان، الحب الذى لازمنى عقودا.

***
كثيرة كانت الرحلات الجوية «الشاقة» التى تعاقبت بعد هذه الرحلة القصيرة الأولى. أذكر مثلا الرحلة من مدينة كان اسمها كانتون وتقع فى أقصى جنوب الصين إلى العاصمة وكانت تنطق بكين باللسان البربرى، أى الأجنبى.. كانت الطائرة من طراز قديم للغاية ووظيفتها نقل الركاب بين عواصم الأقاليم الصينية. صعدت وهبطت خلال ساعات السفر الثمانى أكثر من عشر مرات. أكلت خلالها ما لا يقل عن عشر تفاحات وشربت أكثر من عشرة أكواب من الشاى الصينى. ما أن يصعد الطيار بالطائرة إلى ارتفاع معقول إلا ويشغل المقود الآلى ويحمل سلة التفاح يمر بها على الركاب، وبعد دقائق يخرج من قمرته حاملا «ترموس» ضخما يفرغ منه الماء المغلى فى أكواب الشاى التى تعهدنا بحملها فى أيدينا طوال الرحلة.

***
التجربة الشاقة الثانية كانت عندما كنا نعبر المحيط الأطلسى مغادرين البرازيل فى طريقنا إلى السنغال. كانت الطائرة واحدة من تلك الطائرات الضخمة التى عندما تراها على أرض المطار تطمئن إلى أنها كريح الراحل «أبو عمار» التى وإن هزت الجبال فلن تهز شعب الجبارين. عشنا ساعة أو أكثر فى ظلام دامس فى طائرة كانت كريشة حمام فى مهب عاصفة رعدية استوائية. أذكر أنها سقطت أكثر مرة لمسافات ألف قدم أو أكثر. ثم تعود لتنحرف بقوة يمينا أو يسارا بعيدا مئات الأمتار عن خط طيرانها.

***
تجربة أخرى، كانت شاقة بقدر ما كانت مأساوية، وأظن أننى كتبت عنها أكثر من مرة من فرط ما تأثرت بها. كنا وعائلتى الصغيرة فى الطريق من هونج كونج إلى القاهرة عندما هاجمتنا بعد منتصف الليل عاصفة موسمية فوق مدينة بوبمباى، مومباى الآن، واضطر قائد الطائرة للهبوط اضطراريا خارج مدارج المطار، متسببا فى احتراق الطائرة ثم انفجارها ولكن بعد أن خرج الركاب سالمين، وإن مصعوقين.

***
تجربتى الشاقة الرابعة، كانت مثيرة وخفيفة الظل. وقعت الصدمة عندما خرج علينا الطيار من قمرته يحمل لمجموعة الركاب، وكانوا أربعة، كئوس القهوة. الطيار الذى وقف أمامنا رأيناه على امتداد الليل ساهرا يشرب الكحول حتى الفجر عندما غادر البار فى طريقه إلى المطار ليقود الرحلة التى يقوم بها يوميا من مورونى عاصمة جزر القمر إلى تاناناريف عاصمة مدغشقر. عرفنا منه يومها أنه الطيار الوحيد فى الشركة وأنه هو نفسه صاحب الشركة وصاحب الطائرة الوحيدة التى تمتلكها الشركة. أظن أنه قضى معنا فى كابينة الركاب يتسامر ويشرب أكثر مما قضى ممسكا بمقود الطائرة.

***
تجربتى الشاقة الخامسة كانت على متن طائرة كبيرة أقلتنا، رئيسى فى العمل وأنا، خلال أعياد رأس السنة. كان الرئيس متقدما فى العمر بحسابات ذلك الوقت وكنت أنا صغيرا بحسابات كل الأزمنة لا أتجاوز الثانية والعشرين. كنا نجلس فى مقعدين متجاورين بالدرجة الأولى، وكانت الرحلة ليلية والصخب والرقص والموسيقى «على آخرها» فى الدرجة السياحية، حيث يحتفل شبان بالأعياد يغنون ويرقصون. جلست متململا «أفرك» فى مقعدى، ثم تجاسرت واستأذنت أن أتجول فى الطائرة. نظر لى من تحت نظارته السوداء نظرة خلتها حقودة، أعقبها بدرس فى الوقار، أنت الآن دبلوماسى ويجب أن تتصرف برزانة وعقل ولا تفعل ما يفعله «الشبان». غضبت وتمردت، ولكن بعد أن وصلنا الفندق. دخل إلى غرفته لينام وخرجت لأسهر مع شباب الوفد المرافق.

***
لم تكن كل رحلاتى الجوية شاقة، بل أكاد أجزم أن أغلبها كان ممتعا ومثيرا. لا أنكر أنه فى إحدى هذه الرحلات تعرفت على حقيقة وتفاصيل ما يحدث من مناورات وخدع وعلاقات ومشكلات عاطفية داخل مجلس إدارة واحدة من أكبر الشركات العالمية المعروفة. كانت الرحلة قصيرة، أى لساعات قليلة ولكن كافية لأن أتناول مع الشخص الراوى الثقة. يحكى ويحكى ثم يتوقف ليجيب على أسئلتى أو يستغرق فى تفاصيل لا تهمنى فأعيده إلى المثير منها وما خفى ويخفى علينا. ما زلت أحتفظ ببعض ما تبادلناه فى هذه الرحلة أنا والراوى. وما زلت عند وعدى بأن أحترم هذه الثقة، ومازالت هذه المعلومات تنير لى الطريق لفهم الكثير مما يدور فى عالم الأعمال، وهو بحق خطير ومثير.

***
فى رحلة أخرى، وكانت قصيرة إذ لم تتجاوز الساعة، استمعت من رفيقى فى السفر، إلى تفاصيل لم تنشر ولم تطلع عليها المحكمة ولم يشر إليها الدفاع ولا الاتهام فى جريمة قتل طرفاها مشهوران ومعروفان للعامة والخاصة. أفصح الراوى عن سبب اهتمامه بسرد التفاصيل أمام مسافر بالكاد تعرف إليه فجاء الرد صادما، قال الشخص والجمال الباهر والذكاء المتوقد إنه يخشى على حياته ولا يريد أن يذهب معه سره فأراد أن يودعه عندى. وأضاف إن شئت المزيد اتصل بى فى بلد الوصول على هذا الرقم.. ولم أتصل.

***
إن نسيت رحلات أخرى فلن أنسى الرحلة الطويلة التى استغرقت ست أو سبع ساعات، وخلالها أشبعت فضولى المتعدد المصادر، فضول أكاديمى وفضول صحفى وفضول شخصى وفضول المؤرخ الهاوى الباحث عن سير وتفاصيل غير معروفة عن حيوات قيادات سياسية وعسكرية حكموا مصر. أكثر ما سمعته فى تلك الرحلة لم أكن قرأته فى مكان أو سمعته على لسان أحد، ولا يزال غير معروف. الكشف عنه لن يغير من حكم التاريخ على هذه الزعامات. أو من حكمنا نحن عليهم. لا أرى مبررا مقنعا وراء الحرص على عدم إذاعته أو الكشف عنه كله أو بعضه سوى شعورى الممتع بأننى أعرف أكثر مما يعرف الآخرون، وأننى احترمت الثقة التى أولانى إياها الراوى، رفيق رحلة الساعات العديدة، ورفيق رحلة عمل وسنوات طويلة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي