وحيد حامد البرىء.. وطائر الليل الحزين دروس فى مهام السلطة القضائية - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 12:14 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وحيد حامد البرىء.. وطائر الليل الحزين دروس فى مهام السلطة القضائية

نشر فى : الثلاثاء 12 يناير 2021 - 9:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 يناير 2021 - 9:00 م


لم أقصد بوصف الكاتب والسيناريست العبقرى والوطنى وحيد حامد بـ«البرىء» الإشارة إلى أحداث أو إلى شخصيات أبطال فيلمه الشهير «البرىء» (أُنتَج فى 1986، ولكن الرقابة لم توافق على عرضه إلا فى 2005)، ومن أبرز شخصيات الفيلم: الفنان أحمد زكى فى دور (أحمد سبع الليل) ــ الشاب الريفى الفقير الذى لا يعرف من الدنيا إلا قريته ــ والفنان محمود عبدالعزيز فى دور (العقيد توفيق شركس) ــ الضابط «الشيزوفرينى» الذى يعيش حياة مزدوجة بين حياته الخاصة حيث يبدو فى غاية اللطف والرقة، وبين حياته المهنية حيث يُمارس أبشع وسائل التعذيب بعنف ووحشية، فوحيد حامد «برىء» من طبيعة الشخصيتين، فهو لم يكن طوال حياته لا ساذَجا ولا مُذنبا، ولكنه كان مبدعا ومهموما بقضايا وطنه، وعلى رأسها تحقيق «الحرية» و«العدالة».
كان وحيد حامد مُحاربا قويا ضد الفساد السياسى بكل أنواعه، ومن أهمها فكرة تحويل الحاكم المستبد للإنسان الأمى أو غير المتعلم تعليما جيدا إلى آلة مُبرمجة من أجل خدمة هذا الحاكم، كما هو الحال فى فيلمه «البرىء»، وهذا ما عبر عنه بعض النقاد بالعبارة: «قمع الحرية بجهل الأبرياء (أى السُذج)»، فقد كتب وحيد حامد، فى الإهداء الذى تصدر نص السيناريو المكتوب لفيلمه: «إهداء إلى عشاق الحرية والعدالة فى كل زمان ومكان أهدى هذا الجهد المتواضع».
أؤكد، من جديد، أننى لم أقصد بوصف «البرىء» لكاتبنا وحيد حامد بالمعانى المشهورة التى تتضمنها هذه الكلمة: «السذاجة أو الخلاص من التهم»، الصفتان اللتان جسدتهما شخصيتا الريفى الفقير أحمد سبع الليل، والضابط الشيزوفرينى العقيد توفيق شركس، ولكنى آثرت أن أنعَتَه بمدلولات أخرى لهذه الصفة، فـ«برِىءٌ» هى صيغة فَعِيل للمبالغة من الثلاثى «ب ر أ»، و«البِرُ» هو خير الدنيا والآخرة؛ فقد جاءت كلمة «البِر» على وجوه كثيرة فى اللغة العربية، إلا أنَها فى مجملها تدور حول معانى الخير والعمل الصالح، والحق والعدل، والأبرياء جزاؤهم عند الله الجنَة، كما فى قوله تعالى: «إِنَ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ» (الانفطار: 13).
وما قصدته من صفة «البرىء» التى نسبتها له، نجدها تحديدا فى مضامين الكلمة التى يمكن أن تكون مرادفة لمقصدى وهى «الصنديد»، أى الشَريف الشُجاع، ولعل هذا هو ما كان يجب كتابته كعنوان لهذا المقال، إلا أن كل إنسان، كما يقولون، له نصيب من اسمه أو من عمله.
ففى حياة كثير من الفنانين تلتصق بهم صفات تأتى من أشهر أعمالهم، مثل «الزعيم» لعادل إمام إشارة إلى مسرحيته «الزعيم»، و«الساحر» لمحمود عبدالعزيز، نسبة إلى فيلمه الذى يحمل نفس الاسم، و«الأميرة إنجى» لمريم فخر الدين، نسبة إلى دورها فى فيلم «رُدَ قلبى»، و«النهر الخالد» للموسيقار محمد عبدالوهاب نسبة لأشهر أغانيه، و«الفارس» لأحمد مظهر، نسبة لعمله كضابط بسلاح الفرسان، ولدوره الأشهر فى فيلم «الناصر صلاح الدين»، و«النمر الأسود» و«الإمبراطور» لأحمد زكى نسبة لدورين قام بهما فى فيلمين يحملان نفس اللقبين، وتحية كاريوكا التى أُلصِق بها لقب «كاريوكا» نسبة لأول رقصة لها كانت مكسيكية واسمها «كاريوكا».. فهؤلاء الفنانون اشتهروا بهذه الألقاب لأن أحيانا شخصياتهم تتفق مع مواصفات العمل الفنى، وأحيانا أخرى لأن هذه الأعمال هى سبب نجاحهم وشهرتهم.
***
وأما عن فيلم «طائر الليل الحزين» (1977) فهو أيضا من تأليف وسيناريو وحيد حامد، وإخراج يحيى العلمى، وتدخل فكرة الفيلم فى نفس فلك الفساد السياسى لقصة فيلمه «البرىء»، وأفلام أخرى عديدة؛ تدور أحداث الفيلم حول عادل عزام (محمود عبدالعزيز)، الموسيقار الشاب الذى حُكم عليه بالإعدام فى جريمة قتل لم يرتكبها، حيث أنه وقت ارتكاب الجريمة كان يقضى ليلة حمراء مع امرأة لا يعرفها، ولكن القدر دَبر له سيناريو إلهيا يساعده على كشف الحقيقة، فقد انقلبت العربة التى كانت تُقله من المحكمة إلى السجن حيث سيتم إعدامه.
هكذا استطاع أن يهرب قبل أن يصل إلى السجن، وبمساعدة رئيس النيابة حازم المغربى (محمود مرسى) الذى كان قد أدانه بمهارة أثناء المحاكمة، وكان سببا فى صدور حكم الإعدام عليه، إلا أنه اقتنع ببراءة عادل فيما بعد، فيشعر بذنب كبير لتسببه فى صدور حكم إعدام على شخص برىء لم يرتكب أى جريمة، وبالبحث والتحرى يعثر عادل المتهم ومعه حازم وكيل النائب العام على المرأة المدعوة دُرية (شويكار) التى كان يقضى عادل عندها ليلته، حاول الاثنان حثها على الشهادة أمام المحكمة بأن عادل كان معها لحظة وقوع جريمة القتل، لكنها ترفض رفضا باتا.
تُخبِر دُرية عادل ووكيل النيابة أنها زوجة طلعت مرجان (عادل أدهم)، فهو رجل مهم جدا ومعروف بنفوذه القوى فى المجتمع، وتهددهما به، وتطلب منهما الابتعاد عنها، وتتصاعد الأحداث إلى أن يستطيع وكيل النائب العام ــ بعد أن واجه تهديدات له شخصيا من طلعت مرجان، ومخاطر نالت أسرته ــ أن ينتصر للحقيقة، وذلك عندما عرفت دُرية بأن طلعت مرجان يريد التخلص منها لأنها نقطة ضعفه التى يمكن أن تكشف فساده وانحرافه، فتتوجه إلى المحكمة للشهادة وتُبَرِئ عادل عزام.
ما يهمنا فى هذه القصة المثيرة ليس فقط واقعها الذى يحكى فساد شخص لم تُحَدد هويته، سواء كان مسئولا كبيرا فى أحد الأجهزة النافذة فى الدولة، أو رجل أعمال يُسَخِر أمواله فى شراء ذمم بعض المسئولين، والذى جسده بمهارة عالية الفنان القدير عادل أدهم فى شخصية طلعت مرجان ــ فدوره فى الفيلم مثل الشر والفساد بشكل عام ــ ولكن الأهم هو توضيح دور «النيابة العامة»، والتى توصف بـ«محامى الشعب»، فهذا يَصُب ضمن أهداف وحيد حامد التنويرية التى لا تقتصر فقط على كشف مثالب المجتمع، وإنما يقصد بها تعريف المواطن العادى بحقوقه وواجباته، ومنها مهام السلطة القضائية المنوط بها تحقيق العدالة، والجدير بالذكر فى هذا المقام، أن «المحامى» يوكله أى فرد ليترافع عنه فى المحكمة، فهو يدافع عن حقوق هذا الفرد، أو ينفى تهمة عنه، أما وكيل النيابة فهو المحامى الذى يُدافع عن المجتمع بأثره.
فالنيابة العامة تعتبر أحد مكونات السلطة القضائية، فهى تنوب عن المجتمع وتمثله أمام القضاء، بهدف الحفاظ على أمنه والدفاع عنه، ومحاربة الجريمة واستقصائها، والتحقيق فيها، وملاحقة مرتكبيها، وإحالتهم للمحاكم، ومتابعة سير الدعوى أمام المحاكم حتى يصدر فيها حكم نهائى غير قابل للطعن، ومتابعة تنفيذه، وهذا هو الدور الذى قام به رئيس النيابة حازم المغربى فى فيلم «طائر الليل الحزين»، صحيح أنه قد تجاوز مهمته بحماية المتهم وإيوائه فى مسكن خاص به، ولكن هكذا اقتضت الحبكة الدرامية دون المساس بالدور القانونى المنوط لوكيل النيابة.
***
كان هذا هو تبيان لدور النيابة العامة من خلال ما قام به حازم المغربى فى الفيلم، أما القضاء فدوره مختلف عن مهام النيابة العامة، فأهم مواصفات القضاء هى «الحيادية الكاملة»، ولهذا قصة أخرى، يجب أن يَدرسها طلاب كلية الحقوق، وملخصها أن أحد القضاة الفرنسيين كان يقضى يوما فى أحد الفنادق فى مقاطعة فرنسية، وأثناء تواجده فى الفندق، شاهد بعينه من شباك غرفته جريمة قتل، وتأكد من القاتل والقتيل ومن أحداث الجريمة، ثم تصادف أن هذه القضية عُرضت أمامه، فيما بعد، فى الدائرة التى يعمل بها فى المحكمة، ورغم أنه شاهد على كل أحداثها إلا أنه رفض النظر فى القضية، واعتذر عنها لاستشعاره الحرج!
وترجع حجة القاضى فى اتخاذ هذا الموقف، أنه لا يعرف ملابسات الجريمة التى من الممكن أن تُخفف من الحكم على الجانى، أو حتى تُبرِئَه لو أنه فى حالة الدفاع عن النفس، على سبيل المثال، فضلا عن أن من شروط عدالة القضاء ضرورة تمتع القاضى بالحيادية التامة تجاه أطراف المتخاصمين فى الدعوى المعروضة أمامه، فلا يجب على القاضى النظر فى دعوى لأحد أقاربه، أو معارفه، أو لشخص سبق التعرُف عليه فى أى مناسبة أيا كانت، أو لأى شخص كانت له علاقة به سواء حسنة أو سيئة، وذلك لضمان «الحيادية» التامة لتحقيق «العدالة» المُنَزهة عن أى أغراض شخصية، فهذا هو ما يساعد القاضى على أن يتميَز حُكمه بـ«الموضوعية» (Objectivity) ويتجنب «الذاتية» (Subjectivity).
فالقاضى الفرنسى، موضوع هذه الحادثة، وجد نفسه شاهدا على واقعة قتل رآها بعينه، فخشى أن تتغلب «ذاتيته» على «موضوعيته» التى يجب أن يتحلى بها، فلا يجب أن يحكم فى القضية إلا من خلال تحريات الشرطة، وشهود الواقعة، والمستندات المقدمة له بعيدا عن أى رؤية شخصية من طرفه، وهذا على عكس دور وكيل النيابة الذى من حقه التحرى، ولو بشخصه عن طريق الشرطة، فهو وثيق الصلة بالسلطة التنفيذية (الشرطة)، ذلك أنه «محامى الشعب»، ومن واجباته ملاحقة الجريمة، وأطرافها لتحقيق الأمن والسلامة للمجتمع، فيقوم بنفسه بمُعاينة الجريمة، ومتابعة أحداثها، ومُساءلة كل من يشُك فيه، وكذلك من حقه استدعاء أى شخص يرى أنه من الممكن أن يساعده فى إجلاء الحقيقة، علما بأننا فى أحيان كثيرة، نجد وكيل النيابة يُكِيل أشد الإدانات للمتهم، ويُطالب المحكمة بالحكم بأقصى العقوبة، ولكن المحكمة تحكم بالبراءة!
***
هكذا أتاح لنا الفنان الكبير وحيد حامد من خلال بعض أعماله التعرف على مهام السلطة القضائية بشُعَبها المختلفة، والفارق بين دور القضاء، ومهام النيابة العامة، وقد استكمل منظومة العدالة عندما أوضح وظيفة المحامى الذى يتبنى وجهة نظر الموكِل ويدافع عنها، كما ظهرت فى فيلمه «طيور الظلام» (1995)، من خلال شخصيتى فتحى نوفل (عادل إمام)، وعلى الزناتى (رياض الخولى)، فالمحامى دوره أساسى فلا تتحقق العدالة إلا بوجوده، ففى حالة الجنايات، كالقتل، على سبيل المثال، إذا لم يستطع المتهم توكيل محام عنه، فإن المحكمة تنتدب محاميا له على نفقة الدولة.
وخلاصة القول، أن العدالة لا تستقيم إلا مع توافر الأجنحة الثلاثة لها: أولا، القضاء المحايد والمستقل؛ وثانيا، النيابة العامة بدورها المدافع عن حقوق المجتمع؛ وثالثا، دور المحاماة الذى يدافع عن من يُطالب بحقه أو عن متهم يبحث عن براءته.
وقد استطعنا، كذلك، من خلال هذا المقال، تحديد التعريف اللغوى بشكل عملى لمصطلحى «الموضوعية» ونقيضها «الذاتية»، ووقعهما فى القضاء، وكذلك تعريف صفة «البراءة»، الصفة التى ألحقناها بشخص المبدع وحيد حامد، سائلين الله سبحانه وتعالى أن تَلزمه فى آخرته، فيكون من أهل النعيم، جزاء وفاقا لما قدمه لمجتمعه، ومناصرته للفقراء والضعفاء والمظلومين من أبناء وطنه، فعليه رحمة الله.

أستاذ الأدب واللغويات بقسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك سعود بالرياض

 

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات