نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للكاتبة رغدة البهى، تناولت فيه محاولات كندا والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة فرض قيود على استخدام تطبيق تيك توك، كما فسرت مخاوفهم الدافعة لحظره... نعرض من المقال ما يلى.
تتصاعد حدة الأزمة التى يواجهها تطبيق «تيك توك» عالميًا بعد أن حظرته بريطانيا من الأجهزة الحكومية الرسمية، بالتوازى مع قيود مماثلة فرضتها كندا والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، وذلك على الرغم من جهود شركة «بايت دانس» (المالكة للتطبيق) التى عزلت بيانات المستخدمين والمستخدمات فى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى عن عملياتها العالمية من ناحية، ودأبت على التأكيد على سلامة بياناتهم ورفضها ونفيها تسليم تلك المعلومات إلى الحكومة الصينية من ناحية ثانية.
عوامل مُفسرة
تدور مخاوف مختلف الدول من تطبيق «تيك توك» حول: استخدامه لأغراض التجسس، وانتهاك خصوصية المستخدمين والمستخدمات، وجمع بيانات استخبارية عنهم لصالح الحزب الشيوعى الصينى، وتزايد إمكانية إتاحة بيانات هؤلاء المستخدمين والمستخدمات للحكومة الصينية فى ظل الترابط بين الشركة المالكة له والاستخبارات الصينية، بجانب تعدد المخاطر الأمنية للتطبيق الذى يهدد الأمن القومى لكثير من الدول بعد أن تحول إلى أداة فى يد الصين، ناهينا عن القوانين الوطنية التى قضت بوجوب تسليم الشركات الصينية للبيانات التى تطلبها منها الحكومة الصينية والتى قد تستخدمها لنشر معلومات مضللة، وأيضًا إقرار شركة «بايت دانس» بأن بعض الموظفين فى الصين يمكنهم الوصول إلى بيانات المستخدمات والمستخدمين الأوروبيين.
فلا شك أن البيانات أضحت هى «نفط القرن الحادى والعشرين»، ولكونها السلعة الاقتصادية الأبرز، تُثار التساؤلات عن مصير البيانات الشخصية التى يَجمعها التطبيق (مثل: الموقع الجغرافى، ونشاط المستخدمين والمستخدِمات، وبريدهم الإلكترونى، ونوع أجهزتهم الإلكترونية المستخدمة، والتطبيقات الأخرى الموجودة على أجهزتهم، وغير ذلك). وهو ما تتزايد خطورته فى ظل تعقب خوارزميته لما يشاهده المستخدمون والمستخدمات ومقدار الوقت الذى يقضونه لمشاهدة كل مقطع فيديو، لتحديد المحتوى الأكثر تفضيلًا لهم من خلال الوقوف على أنماط سلوكهم. وهو ما دفع البعض للقول إن الهدف من جمع تلك البيانات يتمثل فى الأغراض التسويقية، بينما دفع آخرون بإمكانية بيعها لحكومات أخرى. وهو ما قاد بدوره إلى مخاوف أمنية دفعت كثيرا من الدول للتحقيق فى حجم البيانات التى تمكن التطبيق من جمعها للوقوف على مصيرها المحتمل.
كما لا يمكن التقليل من شأن ما خلُصت إليه لجنة التجارة الفيدرالية ووزارة العدل الأمريكية من استنتاجات تؤكد فشل التطبيق فى الالتزام بقوانين خصوصية الأطفال ما يستوجب حظره فى الداخل الأمريكى. وقد سبق أن طالب «مركز الديمقراطية الرقمية»، بجانب «حملة من أجل طفولة خالية من التجارة» منذ سنوات عدة لجنة التجارة الفيدرالية بالنظر فى فشل التطبيق فى حذف مقاطع الفيديو ومعلومات المستخدمات والمستخدمين الشخصية ممن يبلغون من العمر 13 عامًا أو أقل. فمع تنامى أعداد صغار السن المستخدمين للتطبيق، دفعت بعض الدول ــ لا سيما الهند والبرازيل وبعض الدول العربية ــ بتعرض المراهقات والمراهقين وصغار السن لبعض الفيديوهات الخارجة وغير اللائقة التى تتنافى مع القيم المجتمعية.
كما يبرز ــ فى هذا الإطار ــ خطورة بعض التحديات التى يروج لها التطبيق والتى نجم عن كثير منها إصابات بالغة؛ فقد تسبب تحدى «كيكى» فى موت بعض المستخدمين على خلفية رقصهم خارج سياراتهم، كما تسبب تحدى (Oh Nanana) فى كسر كاحل إحدى المستخدمات البريطانيات على خلفية أدائها لبعض الحركات الراقصة على أنغام الأغنية نفسها ما استلزم إجراء جراحة لها. كما تسبب تحدى Skullbreaker فى إصابات بالغة بلغت إلى حد ارتجاج المخ والشلل والوفاة على خلفية محاولة شخصين عرقلة الثالث أثناء قفزه، كما تسبب تحدى «تناول قطعة من الحلوى بداخلها مادة حارة للغاية» فى تسمم ما لا يقل عن 57 طالبًا بإحدى المدارس الثانوية بالمكسيك.
بيد أنه تجدر الإشارة إلى اختلاف مخاوف بعض دول الشرق الأوسط (مثل الأردن التى حظرت التطبيق بعد أن نشر فيديوهات تحرض على القتل والفوضى خلال الاحتجاجات التى شهدتها المملكة فى ديسمبر 2022 على خلفية ارتفاع أسعار المحروقات) أو جنوب آسيا (مثل الهند التى حظرت التطبيق بسبب تصاعد التوتر مع الصين) من ناحية، ومخاوف بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة من ناحية ثانية. إذ تدور مخاوف الأخيرة بالأساس حول الاعتبارات الأمنية جراء تأثير الحكومة الصينية المحتمل فى التطبيق، وبخاصة بعد أن ثبت قيامه بجمع معلومات عن بعض الصحفيين الغربيين كما أظهرت مراسلاته الرسمية؛ حيث تمكن التطبيق من رصد أماكن هؤلاء الصحفيين وتحديد طبيعة المعلومات التى يتلقونها، ما أكد أن كثيرًا من مخاوف الدول الغربية فى محلها؛ ذلك أن استخدام التطبيق يمكنه من معرفة مكان المستخدمين وما يبحثون عنه وأهم تفضيلاتهم.
دلالات وتداعيات
نظرًا تعدد المبررات والمخاوف التى تتفاقم سوءًا فى ظل افتقار عدد من الدول إلى قانون يكفل حماية خصوصية البيانات الوطنية وأنظمة المستخدمين والمستخدِمات، يتحتم على كثير من الدول وفى مقدمتها الولايات المتحدة الاختيار بين الاستجابة لمخاوفها الأمنية من ناحية، وتلبية متطلبات حرية الرأى والتعبير من ناحية ثانية، وكذا الاختيار بين استرضاء «جيل الألفية» من ناحية، و«الجيل زد» من ناحية ثانية. فلا شك أن الأول (ممن تتراوح أعمارهم بين 27 إلى 42 سنة) أقل ارتباطًا بالتطبيق وأقل استخدامًا له بالمقارنة بالثانى (ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و26 سنة)؛ إذ يرى الأخير أن تطبيق تيك توك لا يعدو كونه مصدرًا للترفيه والعائد الاقتصادى ومنصة للتحديات المميزة، ووسيلة للشراكة التجارية بين المستخدمين والعلامات التجارية المرموقة.
وقد خلص استطلاع الرأى الذى أجرته شركة (Social Sphere, Inc) فى 22 مارس 2023 ــ على 1607 ناخبًا مسجلًا تراوحت أعمارهم بين 18 و42 عامًا ــ إلى أن «جيل الألفية» يفضل حظر التطبيق فى الداخل الأمريكى بنسبة تتراوح بين 34 ــ 49% بالنظر إلى استخدامه فى عملية جمع البيانات والترويج للدعاية الصينية ونشر معلومات مضللة، وإن عارض «الجيل زد» ذلك الحظر بنسبة تتراوح بين 34 ــ 53%. كما خلص إلى أن ناخبى «الجيل زد» و«جيل الألفية» ينظرون إلى التطبيق بصورة إيجابية (بنسبة بلغت 66% و46% على الترتيب).
ويسلط ذلك الاستطلاع الضوء على التداعيات المحتملة لحظر التطبيق التى قد تشمل حدوث رد فعل عنيف فى أوساط المستخدمين الشباب وجماعات الحقوق المدنية فى الداخل الأمريكى، ناهينا عن ردود أفعال الصين المحتملة والحاسمة على الحظر الأمريكى بعد أن دفعت بعض التحليلات بأن الموقف الأمريكى من التطبيق لا يعدو كونه حلقة جديدة من حلقات «الحرب البادرة التكنولوجية» التى بات على إثرها التطبيق فى قلب المواجهة السياسية بين الدولتين، وبخاصة وأن جهود الإدارة الأمريكية تأخذ شكل «البيع الصينى القسرى» للتطبيق ما قد يقوض ثقة المستثمرين عالميًا مع تأثر المعلنين والأنشطة ومختلف الشركات التجارية التى قد تواجه خسائر ضخمة محتملة.
وقد يدفع ذلك الصين إلى تبنى سياسات مماثلة فى حق مختلف الشركات التكنولوجية العاملة على أراضيها. وقد تطال التداعيات المحتملة الشركات التكنولوجية الأمريكية وفى مقدمتها شركة «أوراكل» التى تُعد شركة «بايت دانس» أحد أكبر عملائها، وشركة «أبل» عملاق التكنولوجيا الأمريكية التى تُصنع معظم هواتفها وأجهزتها فى الصين (وإن نقلت بعض خطوط الإنتاج خارج البلاد فى ظل تصاعد حدة التوتر بين واشنطن وبكين)، بجانب شركة «بايت دانس» نفسها (المملوكة لمؤسسيها بنسبة 20٪، ولموظفيها بنسبة 20٪، وللمستثمرين العالميين بنسبة 60٪).
• • •
تعرض تطبيق «تيك توك» لهجمة عالمية شرسة غير مسبوقة على الرغم من نهم غيره من التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعى لبيانات المستخدمين والمستخدمات نفسها التى يجمعها، وهو ما يمكن معه القول إن الحظر التام له لن يقدم حلًا سحريًا لمخاوف الدول الأمنية منه بالضرورة، ولن يحول أيضًا دون إدمان المستخدمين ــ لا سيما الشباب ــ لوسائل التواصل الاجتماعى ممن يرجح اتجاههم لتطبيقات أخرى يأتى «إنستجرام» فى مقدمتها (بعد أن أتاح خاصية «الريلز» التى تتشابه مع أسلوب «تيك توك»)، كما لن ينجو الحظر بالضرورة من بعض الدعوات القضائية التى قد تلاحقه لأنه يقوض حرية تدفق المعلومات، ليظل الحل الأمثل هو رفع الوعى بمخاطر وسائل التواصل الاجتماعى وأهداف الشركات المالكة لها من ناحية، وتعزيز خصوصية المستخدمين والمستخدمات بقوانين فاعلة تكفل حماية بياناتهم وتحول دون وصول الشركات المحلية والأجنبية إليها من ناحية ثانية.
النص الأصلى: