من المعروف أن حياد أجهزة الدولة من إدارة وشرطة وقضاء وجيش بين الأحزاب والمرشحين المتنافسين هو أحد المبادئ المستقرة فى النظم الديمقراطية فى الدول المتقدمة ودول الجنوب على السواء. فعلى سبيل المثال تعاقب على سلطة الحكم حزبا المحافظين والعمال فى بريطانيا والاشتراكيون وأحزاب اليمين فى فرنسا والحزب الديمقراطى المسيحى والحزب الاشتراكى الديمقراطى فى ألمانيا، وفى الهند تغيرت الحكومة فى نيودلهى ما بين ائتلاف يقوده حزب المؤتمر وائتلاف آخر يقوده حزب جاناتا ولم يؤثر ذلك على موقف أجهزة الدولة المختلفة التى التزمت فى كل هذه الحالات الحياد بين جميع المرشحين المتنافسين. لم يجد باراك أوباما مثلا صعوبة فى التعامل مع أجهزة الإدارة الاتحادية أو فى الولايات لأنه كرئيس ديمقراطى خلف رئيسا ينتمى إلى الحزب الجمهورى وهو جورج بوش. وحتى فى دول الجنوب لم تكن هناك صعوبة تذكر واجهها لويس لولا زعيم حزب العمال البرازيلى الذى ينتمى إلى يسار الوسط فى إدارة الدولة وكان قد خلف فرناندو هنريك كاردوسو زعيم حزب الحركة الديمقراطية البرازيلية ذات التوجهات الليبرالية، وقد حكم كل منهما البرازيل لفترتين رئاسيتين.
أما فى مصر فموقف أجهزة الدولة من المرشحين الذين لم يخرجوا من أجهزة الدولة هو موقف ملتبس، ليس فقط لأننا نعود إلى الانتخابات التنافسية بعد فترة دامت ثلاثة وعشرين عاما من غياب التعددية الحزبية (1953 ـ 1976) وحوالى نصف قرن تقريبا من غياب التنافس على منصب رئيس الجمهورية (1956 ـ 2005) ولكن لأن الانتخابات المختلفة سواء كانت نيابية أو رئاسية شابها التدخل الفاضح من جانب بعض أجهزة الدولة وخصوصا الشرطة والإدارة الحكومية على المستويين المركزى والمحلى. كانت هذه الأجهزة تقوم بتزوير الانتخابات لصالح أحزاب الأقلية ضد حزب الوفد ذى الأغلبية المؤكدة معظم فترة الحكم الملكى. وكانت الانتخابات الرئاسية فى ظل الجمهوريات الثلاث التى تعاقبت على مصر حتى سنة 2005 هى بالاسم وبالفعل استفتاء على مرشح واحد يتراوح ما يحصل عليه من أصوات ما بين 90 ـ 99 %، ليس ذلك لأن تلك هى النسبة التى حصل عليها من أصوات المواطنين ولكن لأن وزارة الداخلية التى كانت تشرف على الانتخابات كانت تعتبر أن هذه النتيجة هى مؤشر لهيبة منصب رئيس الجمهورية وليست بالضرورة انعكاسا لإرادة المواطنين. أما الانتخابات النيابية فى ظل الحكم الجمهورى فكان لا يسمح فيها بالترشح لغير المنتمين إلى التنظيم الواحد حتى سنة 1976، أو كانت أجهزة الإدارة والشرطة تكفلان بوسائل مختلفة ضمان ألا يقل نصيب الحزب الحاكم من المقاعد عن الثلثين بالإضافة إلى هامش مريح خصوصا فى مجلس الشعب الذى كان يحتكر من حيث المبدأ سلطة التشريع.
ومنذ بدأت مصر تجربة الانتخابات الرئاسية التنافسية منذ سنة 2005 أصبح موقف أجهزة الدولة حاسما سواء لنجاح المرشح فى الانتخابات أو لتمكنه من الممارسة الفعلية والسلسة لسلطاته. فى المرة الأولى لهذه الانتخابات لم تشعر أجهزة الدولة بحرج فى إعلان تأييدها للمرشح الذى كان على رأس الدولة. تبارى الوزراء والمحافظون فى إعلان تأييدهم للرئيس حسنى مبارك ولم يترددوا فى استخدام إمكانات الدولة فى الدعاية له وحشد الأصوات لصالحه وإثارة العراقيل أمام منافسيه واجتهدت أجهزة الشرطة فى اكتشاف ما يعزز توجيه الاتهام للمنافس المعارض الذى حصل على أعلى نسبة من الأصوات عقابا له وتشويها لصورته أمام الرأى العام. أما فى انتخابات 2012 فقد اختلف الأمر نسبيا قبل الانتخابات ولكنه لم يختلف بعدها. لم يكن هناك مرشح معين لأجهزة الدولة، وخصوصا بعد بطلان ترشح المرحوم اللواء عمر سليمان. لم يكن الفريق أحمد شفيق حقيقة مرشحا من جانب أجهزة الدولة، فقد كان أقرب إلى النظام الذى أطاحت به ثورة يناير، وكان الذى اختاره رئيسا للوزراء هو الرئيس المخلوع حسنى مبارك، ولم تكن علاقته بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة علاقة طيبة، فقد أقاله المجلس بطريقة مهينة بعد شهر تقريبا من مزاولته لمنصبه رئيسا للوزراء. ولم يكن أى من المرشحين الرئيسيين الآخرين من المنتمين إلى أجهزة الدولة، كان السيد عمرو موسى قد غادر منصبه وزيرا للخارجية قبلها بعشر سنوات وكان المستشار هشام البسطويسى قد عاد من إعارته إلى دولة الكويت ليترشح فى هذه الانتخابات. وليس من المعروف حتى الآن أبعاد قضية طبع بطاقات انتخاب لصالح أحد المرشحين فى المطابع الأميرية. ولذلك لم يكن هناك مرشح معين مالت أجهزة الدولة إلى إنجاحه سواء فى الجولة الأولى أو الجولة الثانية لهذه الانتخابات.
ومع ذلك توقف نجاح المرشح الفائز فى هذه الانتخابات الرئاسية فى ممارسة مهام منصبه بفاعلية على تعاون أجهزه الدولة معه. صحيح أن فشل إدارة الدكتور محمد مرسى يرجع إلى العلاقة التى كانت قائمة بينه وبين مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، فلم يكن الرئيس المنتخب هو الذى يحكم ولكن الذى كان يقوم بذلك هو مكتب الإرشاد، وافتقد الاثنان الخبرة فى شئون الحكم. ومع ذلك كان السبب الرئيسى الذى أودى بحكم محمد مرسى هو عدم تعاون أجهزة الدولة معه. لم تتعاون معه القوات المسلحة لأنه أطاح بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة بطريقة مهينة، ولم يستمع لنصائح القيادة العليا للقوات المسلحة بشأن كيفية إدارة العلاقة مع قيادات المعارضة، كما رفضت الشرطة الانخراط فى قمع المظاهرات التى أحاطت بقصر الاتحادية فى ديسمبر 2012، وأثار غضب القضاة بتعيين نائب عام على غير مقتضى القانون وباقتراح أغلبية الإخوان المسلمين فى مجلس الشورى خفض سن التقاعد للقضاة إلى ستين عاما، وهو ما كان سيهدد بإنهاء خدمة ثلاثة آلاف قاض، كذلك أثار أسلوب التمكين بتعيين شخصيات من الإخوان المسلمين فى مناصب مهمة فى الحكومة وفى الإدارة المحلية حنق موظفى الحكومة الآخرين على كل المستويات. ولذلك ساهم بعض هذه الأجهزة ورحب البعض الآخر بالإطاحة بحكم رئيس لم يخرج بداية من جهاز الدولة.
يثور الآن السؤال حول مدى التزام أجهزة الدولة الحياد قبل وبعد الانتخابات الحالية التى يتنافس فيها مرشحان أحدهما كان يتولى حتى أسابيع قليلة المنصب الأرفع على رأس القوات المسلحة المصرية ومرشح آخر لم يسبق له أن تولى أى منصب فى أجهزة الدولة المصرية بل كان ضحية للقمع من جانب أجهزة أمنها. يبدو حتى الآن أن هذه الأجهزة باستثناءات محدودة تلتزم الحياد، اعتقادا منها أن الانحياز لأحد المرشحين ليس ضروريا لأنه يبدو مؤكد الفوز نظرا لشعبيته الجارفة والإمكانيات الهائلة التى تتمتع بها حملته والتأييد الذى يلقاه من جانب أصحاب الثروة فى المجتمع. ولكن هل تستمر هذه الأجهزة على حيادها إذا ما بدا أن حظ حمدين من الفوز يتحسن على حساب الأغلبية الساحقة التى يرجونها للمرشح الذى خرج من أجهزة الدولة بأغلبية ساحقة؟ وهل ستتعاون أجهزة الدولة مع هذا المرشح الآخر الذى يبدو الآن أنه أقل حظا فى حالة فوزه؟ قد يبدو لك عزيزى القارئ أن هذه قضية نظرية تماما وتحليق فى عالم الخيال، إلا أن التزام جميع أجهزة الدولة من قوات مسلحة وشرطة وقضاء وإدارة حكومية الحياد التام بين جميع المرشحين قبل الانتخابات وبعدها هو شرط أساسى للتحول الديقراطى فى بلادنا وتعزيز هذا التحول.