هناك أشياء وأنشطة نراها أو نسمع عنها ثم نندهش من إنفاق هذه الملايين أو المليارات بدون عائد ملموس (أو هذا ما نعتقده) مثل: استكشاف الفضاء أو تصميم كمبيوتر ضخم للعب الشطرنج.. إلخ، قد نسخر من هذه المشروعات ونقول "يا عم دي ناس فاضية ومعاها فلوس خلينا إحنا في المهم"، مقالنا اليوم عن ما نظنه لعب وهو جد أو ما هو الجد في هذا "اللعب"؟
لنبدأ بوكالة ناسا والتي ننبهر عندما نجد شخصا يعمل بها ونعتبره عالما كبيرا ولكن عندما نتكلم عن استكشاف الفضاء وهي إحدى المهام الأساسية لوكالة ناسا (National Aeronautics and Space Administration) نجد من يتهكم أو على أقل تقدير لا يدري أهمية ذلك، أنت قد تنبهر بما يملكونه من تكنولوجيا إذا قدر لك أن تراها أو تقرأ عنها في مواقع التواصل الاجتماعي أو "يوتيوب" مثلا ولكنه انبهار يشبه انبهارك عندما ترى ساحرا في عرض مسرحي: تنبهر ولكن لا ترى أهمية لذلك بخلاف التسلية (في حالة الساحر) أو الرفاهية العلمية (في حالة ناسا)، فما الأهمية من اكتشاف الفضاء؟
وجد العلماء أنه عندما يقضي رائد فضاء شهرا خارج نطاق الجاذبية فإنه يفقد حوالي واحد ونصف في المائة من كتلة عظامه وهذا يشبه مرض يصاب به كبار السن خاصة النساء ونتيجة لذلك بدأ العلماء في البحث عن علاج لهذا المرض لمساعدة رواد الفضاء وأيضا وجدوا أنه ينفع كبار السن، وقِس على ذلك بعض الأدوية لمعالجة السرطان والتي تتجه نحو الخلية المصابة مباشرة والكثير من التقدم الطبي جاء من ملاحظة والمحافظة على صحة رواد الفضاء.
العيش في مركبة فضائية يستلزم تكنولوجيا جديدة وهذه التكنولوجيا وُجد أنها تنفع أيضا على الأرض مثل البطانية الحرارية (thermal space blanket) والتي يستخدمها الكثير من الرياضيين الآن والمكانس الكهربائية التي تشفط الأتربة ونجدها في معظم البيوت، كل تلك الاكتشافات بدأت بذرتها في رحلات استكشاف الفضاء ثم تطورت لتناسب احتياجاتنا على الأرض.
استكشاف الفضاء أيضا أدى إلى تطورات كبيرة في الأقمار الصناعية التي تستخدم الآن في جعل العالم كله قرية صغيرة عن طريق الاتصالات.. والتجسس!
بناء القدرة على مراقبة ما يحدث خارج الكرة الأرضية مهم لأنه يجعلك تتابع الشهب والنيازك التي تتجه نحو الكوكب وتتخذ ما يلزم لحماية أرواح الناس والاستفادة أيضا من المواد الموجودة في تلك الشهب والنيازك.
هناك الكثير والكثير من الاكتشافات المفيدة في المجالات الطبية والصناعية والتكنولوجية وحتى الزراعية والإدارية التي وصلت إليها وكالة ناسا (وما شابهها في العالم) وأصبحت نافعة في الحياة على الأرض وأستطيع أن أسترسل في ذلك لمقالات عديدة ولكن لنتوقف هنا وننتقل "للعب آخر".
في سنة 1997 حدث حادث كبير في مجال الذكاء الصناعي وهو فوز الكمبيوتر فائق السرعة (Deeper Blue) على بطل العالم آنذاك في الشطرنج جاري كاسباروف، قد تتساءل لماذا تنفق شركة كبيرة مثل IBM ملايين الدولارات (حوالي 100 مليون دولار حسب بعض التقارير) للفوز في لعبة؟ الإجابة هنا أسهل أيضا من سؤال استكشاف الفضاء لأن صناعة هذا الكمبيوتر وبرمجته كانت إيذانا ببدأ عصر الذكاء الاصطناعي بشكل كبير حيث أصبحت قوة الكمبيوتر تؤهله للقيام بمهام أصعب، طبعا هذا الكمبيوتر يعتبر بدائيا جدا بمقياس أيامنا هذه وما تفعله شركة جوجل من أجهزة تتعلم بنفسها، من يفوز على بطل العالم في الشطرنج يمكنه أن يتطور للقيام بمهام أكثر تعقيدا مثل العلميات الجراحية أو تشخيص الأمراض أو البحث عن ثغرات في القضايا للمحامين، لا يجب أن نغفل أيضا عن أهمية هذه التكنولوجيا في الدعاية للشركات التي تصنعها ولكن هذا السبب يأتي كسبب ثان وليس السبب الأساسي من وجهة نظري.
إذا نظرنا إلى عالم الرياضة البحتة فنجد شيئا مشابها، في الرياضة التطبيقية هناك مشكلة ما على أرض الواقع ويحاول العالم الرياضي حلها، أما في الرياضة البحتة فلا توجد مشكلة على أرض الواقع على الأقل في الوقت الحالي، لكن عالم الرياضيات البحتة يبتكر حلولاً قد تستخدم في المستقبل لمشاكل واقعية.
ماذا نستخلص من كل هذا؟
يجب ألا نأخذ بالنظرة السطحية للأمور، فما ليس له استخدام واقعي في الوقت الحالي سيكون له أهمية كبيرة في المستقبل، نحن لا ندري ما تأتي به الأيام فلنكن مستعدين، ونصيحة لأبنائنا: عندما تبدأ في حل مشكلة بحثية ولو صغيرة جدا يجب أن يكون عندك تصور عن أهمية هذا الحل حتى لو كانت هذه الأهمية هي تعلم معلومة أو مهارة جديدة، على أن تعرف لماذا تريد هذه المعلومة أو المهارة.