مهاترات ترامب الجيوسياسية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 يناير 2025 2:06 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مهاترات ترامب الجيوسياسية

نشر فى : الإثنين 13 يناير 2025 - 6:40 م | آخر تحديث : الإثنين 13 يناير 2025 - 6:40 م

 أثار الرئيس الأمريكى المنتخب، دونالد ترامب، جدلا استراتيجيا عاصفا، إثر مخططاته الهادفة إلى إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية لنصف الكرة الغربى. وذلك عبر ضم بؤر حيوية غير أمريكية، على شاكلة: قناة بنما، جزيرة جرينلاند، المكسيك، وكندا، توطئة لإخضاعها للسيادة الأمريكية.

•  •  •

لم يستبعد، ترامب، استخدام القوة العسكرية لاستعادة السيطرة على قناة بنما، إذا لم يتم تخفيض «الرسوم السخيفة» لمرور السفن الأمريكية عبرها. ولا تكمن الأهمية الاستراتيجية للقناة، فى دورها المحورى كممر ملاحى حيوى يربط المحيط الأطلسى بالهادى فحسب، وإنما فى كونها ممرا رئيسا لنسبة 74% من البضائع والقطع البحرية الحربية الأمريكية. وتتفاقم مخاوف واشنطن من تنامى النفوذ الصينى بالموانئ الدولية القريبة من القناة، بما يهدد بتقويض التحركات العسكرية الأمريكية، حالة اندلاع أزمات وطنية أو نزاعات دولية. وبينما نفى رئيس بنما، مزاعم ترامب بوجود قوات صينية حول الممر الملاحى؛ أكّد وزير خارجيته، أن سيادة بلاده ليست قابلة للتفاوض. مشددا على أن القناة، التى استعادتها دونما رجعة، غدت فصلا من تاريخها النضالى.

•  •  •

بين ثنايا وعوده بـتحقيق ما أسماه «العصر الذهبى لأمريكا»، أعلن ترامب أنه سيحاول إعادة تسمية خليج المكسيك، الذى يحتفظ بهذا المسمى منذ أربعة قرون، والذى يعتبره الأمريكيون «الساحل الثالث» للولايات المتحدة، نظرًا لامتداده عبر ولايات جنوب شرقها؛ باسم «خليج أمريكا». من جانبها، تهكمت الرئيسة المكسيكية، على تصريحات ترامب الذى اتهمته بالعيش فى الأوهام. وخلال مؤتمر صحفى، عرضت خارطة قديمة لبلادها، كانت تشمل أراضى أضحت اليوم جزءا من الولايات المتحدة.

•  •  •

نظرا لأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية المتعاظمة، تحدث ترامب منذ عام 2019، عن ضم جرينلاند إلى الولايات المتحدة لأغراض الأمن القومى والحرية للعالم؛ غير مستبعد استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية لبلوغ مبتغاه. وبجريرة الموقع الاستراتيجى المميز للجزيرة الأضخم عالميا، والتى تتمتع بحكم ذاتى منذ عام 1979، تتطلع واشنطن لجعلها مفتاحا للهيمنة على القطب الشمالى، منصة لمراقبة ممرات الغواصات، وبناء منظومات الدفاع الصاروخية الباليستية المتطورة. حيث تزخر الجزيرة بثروات، كمثل النفط، الغاز، الذهب، الألماس، اليورانيوم، الزنك والرصاص، يسيل لها لعاب الصين وروسيا. لذا، يتعجل ترامب الذى تحتفظ بلاده بحق إقامة قواعد عسكرية فيها بموجب اتفاق عام 1951 مع الدنمارك، ضم الجزيرة؛ بغية قطع الطريق على تغلغل القوى العالمية المنافسة. وتخشى واشنطن من أن يمكن ذوبان الثلوج بالقطب الشمالى، بكين وموسكو، من استغلال موارد الجزيرة؛ علاوة على الاستفادة من اختصار مسارات الممرات الملاحية.

أثارت تصريحات ترامب أزمة دبلوماسية مع الدنمارك، العضو بالاتحاد الأوروبى والحلف الأطلسى، دفعها إلى عزيز وجودها العسكرى بالجزيرة لحمايتها. فبينما تشكل مآربه رفضا لعقود من السياسة الأمريكية، التى أعطت الأولوية للسيادة وحق تقرير المصير، على التوسع الإقليمى؛ أكد رئيس وزراء الجزيرة، التى تتبع الدنمارك منذ ستة قرون، حق مواطنيها فى تقرير مصيرهم. بينما اعتبرت موسكو، ذات النفوذ الأضخم بالقطب الشمالى، مزاعم ترامب ضربا من الوهم. وفيما يعد دعما للدنمارك، التى رفضت المهاترات الأمريكية، مؤكدة سيادتها على الجزيرة؛ دعا وزير الخارجية الألمانى إلى احترام مبادئ الأمم المتحدة وإعلان هلسنكى، لجهة تحريم تغيير الحدود بالقوة. فيما شدد نظيره الفرنسى، على أوروبية جرينلاند، واستحالة سماح الاتحاد الأوروبى لأية دولة، التعدى على حدوده السيادية.

•  •  •

فور إعلان رئيس الوزراء الكندى، جوستين ترودو، استقالته، فى السابع من يناير الحالى، جدد ترامب، الدعوة لضم كندا، التى تزيد مساحتها بنسبة 1.6% على مساحة الولايات المتحدة، كى تمسى الولاية الأمريكية الحادية والخمسين. مشددا على المغانم الأمنية والمنافع الاقتصادية، التى تتيحها هكذا خطوة للجار الشمالى، الذى يعد الشريك التجارى الأكبر لبلاده. وادعى ترامب، أن اندماج كندا مع الولايات المتحدة، سينهى تعريفات جمركية بواقع 25%، ويقلص الضرائب بشكل كبير، كما سيجعل كندا آمنة تماما من تهديد البوارج الروسية والصينية. لكنه استبعد اللجوء للقوة العسكرية للقيام بذلك، وسيعتمد فقط على «القوة الاقتصادية». وعلى الطريقة الإسرائيلية، أشعل ترامب تفاعلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعى، عقب نشره خارطة للولايات المتحدة متضمنة كندا. ومثلما كان متوقعا، قوبلت تصريحات ترامب برفض من القادة الكنديين، الذين أكدوا على محورية الشراكة التجارية والأمنية بين البلدين، لافتين إلى كون كندا دولة قوية، ولا يمكن أن تنحنى أمام تهديدات ترامب.

 

•  •  •

يعتقد خبراء أمريكيون أن جنوح ترامب لإعادة هندسة نصف الكرة الغربى جيو سياسيا، يعكس اعتقاده بتعاظم نفوذ الولايات المتحدة فيها، مقارنة ببقاع أخرى متنازع عليها مع روسيا والصين. ورغم أنه ليس أول رئيس أمريكى يلوح بهذا التوجه التوسعى حيال: كندا، جرينلاند، المكسيك وبنما؛ إلا أن خطاب ترامب يخاطر بتصعيد التوترات مع الشركاء والجيران، دون مبرر استراتيجى. خصوصا مع تعمد ممارسة الإكراه الاقتصادى والضغط العسكرى أحادى الجانب، حتى ضد الحلفاء. كذلك، يتعارض رفع ترامب شعار «أمريكا أولا»، وإطلاقه التهديدات بالاعتداء على سيادة الدول الأخرى، مع وعود حملته الرئاسية بإنهاء الحروب الأبدية. الأمر، الذى سينال من موثوقية أمريكا كحليف، كما يضطر شركاؤها، الذين اهتز يقينهم بشأن استدامة دعمها لهم، إلى تبنى ترتيبات أمنية واقتصادية بديلة.

تشى تصريحات ترامب الأخيرة سواء فيما يخص الضم والاستحواذ، أو تكرار تهديداته بفتح أبواب الجحيم على مصاريعها فى الشرق الأوسط، حالة عدم إطلاق الأسرى الإسرائيليين بغزة قبل توليه الرئاسة، باستناد نظرته للقوة الأمريكية على التوسع الإقليمى. الأمر، الذى يمثل انحرافا صارخا عن الأعراف الدبلوماسية السائدة. فقد تعيد منهجية ترامب التوسعية تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، كما تؤسس لتوجه جديد فى العلاقات الدولية، يسوغ ضم أراضى الغير بالقوة. ما يمنح رئيس الوزراء الإسرائيلى اليمينى المتطرف نتنياهو أملا فى مباركة ترامب ضم الضفة وغزة وأراضٍ فى سوريا، الأردن، وجنوب لبنان، إلى دولة الاحتلال الإسرائيلى. فقبل أيام قليلة، نشرت حسابات إسرائيلية رسمية على وسائل التواصل الاجتماعى، خرائط لما يسمى «إسرائيل التاريخية»، تضم أجزاء من الضفة، الأردن، لبنان وسوريا. كما قد يشجع الصين على ضم تايوان إليها بالقوة. ويغذى إصرار روسيا على ضم الأراضى التى احتلتها فى أوكرانيا، كشرط لإنهاء الحرب. فيما يعزز تطلعات أوكرانيا، فى المقابل، إلى مبادلة كورسيك الروسية ببعض أراضيها المحتلة. وكأننا بالعالم وقد شهد توافقا دوليا جديدا بين قواه الكبرى، حول إعادة رسم خرائطه، استنادا إلى غطرسة القوة.

بإحيائه مفاهيم تجاوزها الزمن كمثل: الغزو العسكرى، المجال الحيوى والمصالح الاستراتيجية، ضم أراضى الغير بالقوة؛ يفند ترامب المزاعم المتعلقة بكون الولايات المتحدة دولة بلا تاريخ استعمارى توسعى. كما يقوض ترامب أسس النظام القانونى الدولى المتعلقة بعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، أو الاستحوذ بالقوة على أراضى دولة مستقلة، ذات سيادة وعضو بالأمم المتحدة، الامتناع عن استخدام القوة، أو مجرد التهديد بها فى العلاقات الدولية، والتسوية السلمية للمنازعات. فاستنادا إلى المادة 2 (4) من ميثاق الأمم المتحدة، وإعلان مبادئ القانون الدولى المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول؛ حظرت الجماعة الدولية، بشكل قاطع، ضم الأراضى، أو الاستيلاء عليها بالقوة، أو عبر التهديد بها. كونه يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولى، وميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولى الإنسانى؛ وخرقا سافرا لمعاهدات جنيف. فضلا عن اعتبار محكمة العدل الدولية عملية الضم القسرى جريمة حرب، وعملا من أعمال العدوان، وتهديدا للسلم والأمن الدوليين وجريمة تدخل فى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

فى كتابه المعنون «فن الصفقة»، تحدث ترامب عن أوقات يتعين على الدول أن تكون فيها عدوانية؛ وأخرى يشكل التراجع فيها أنجع استراتيجية. فهنالك، ربما تكون «الصفقة الكبرى» هى السبيل الأمثل والوحيد لتجنب الأضرار الناجمة عن التورط فى حرب يتعذر الانتصار فيها. وبينما استبعد وزير الخارجية الأمريكى، بلينكن، تنفيذ ترامب تهديداته بضم أراضى دول أخرى، عنوة، إلى الولايات المتحدة؛ لم يتورع الشركاء الأوروبيون عن إبداء رغبتهم فى استبقاء التحالف البناء والمتوازن مع واشنطن. فردا على تهديدات ترامب بشأن جرينلاند شدّد الاتحاد الأوروبى، والمفوضية الأوروبية، على مواصلة التعاون الإيجابى مع الإدارة الأمريكية الجديدة؛ استنادا إلى منظومة القيم والمصالح المشتركة، فى عالم مفعم بالتحديات، مؤكدين أن أوروبا والولايات المتّحدة يكونان أكثر قوة ومنعة، حينما يبقيان معا.

التعليقات