في أغسطس عام ١٩٩٩ نشرتُ مقالا في مجلة "الكتب وجهات نظر" بعنوان "الشخصية القبطية في الأدب المصري "، وفي هذا المقال عرضتُ لملامح تلك الشخصية كما عكستها الأعمال الأدبية لكبار الكُتاب المصريين من الأقباط والمسلمين. هذا المقال أخذ مني وقتاً وجهدًا كبيرين، لكنه سمح لي بأن أتنقل كطائر من "البوسطجي" ليحيي حقي إلي "يقين العطش" لإدوارد الخراط، ومن "البشموري" لسلوي بِكر إلي "شبرا" لنعيم صبري، أدخلني المقال إلي عوالم جديدة، وصاحبني على أقلام جديدة بالنسبة لي، وأضاف لقاموسي أيضاً مفاهيم جديدة، صرتُ أكثر غنيً بما لا يقاس. بعد ذلك بعدة سنوات طوّرتُ المقال إلي دراسة أكبر ووضعتُ فيها نماذج أكثر، وجاء ذلك في إطار كتاب عن "الهوية القومية " حرره الأستاذ الجليل الدكتور عز الدين إسماعيل عندما كان رئيسا لقسم الأدب في معهد البحوث والدراسات العربية وقت ازدهاره وتوهجه .
***
الآن خطر لي أن أغوص مجدداً في هذا العالم المليء بالكنوز والأسرار، أحببت أن أري كيف انعكست كل التطورات التي مرت بها مصر منذ ٢٠١١ على الشخصية القبطية، التلاحم القبطي -المسلم في ميدان التحرير والدور المجيد لكنيسة قصر الدوبارة، حركة شباب ماسبيرو وهذا الخروج الكبير غير المعتاد للأقباط والانخراط التام في الحركة الوطنية كما لم يحدث منذ ثورة ١٩١٩، الدعم الضخم الذي قدمته الكنيسة القبطية لتغيير المسار في ٣٠يونيو والصبر الجميل على الحرائق التي أشعلها الإخوان في عشرات الكنائس، الحضور القبطي في دستور ٢٠١٤ وأول خطوة نحو تمثيل سياسي منصف للأقباط.. تطورات.. تطورات.. تطورات كيف أثرت على الأدب الذي هو مرآة مجتمعه؟ قررت أن أفتش كما فتشت في عام ١٩٩٩، وكان سعيد نوح محطتي الأولى.
***
أشكر الظروف التي قادتني للتعرف علي سعيد نوح، فهو كاتب من نوع خاص جداً، إنه صاحب رواية "كلما رأيت بنتاً حلوة أقول يا سعاد" التي فازت بجائزة ساويرس الثقافية لكبار الكتاب في عام ٢٠١٨، ولعل هذا العنوان الذي هو عبارة عن جملة طويلة غير مألوفة يعطينا فكرة عن خصوصية أسلوب سعيد نوح، وحين أدخل لعرض روايته "أحوال مظلوم" سأجد جملاً مشابهة جعلها نوح عناوين فصول روايته كان أغربها هذا العنوان "بارك الله، إله النصارى، فعل أفعالاً تتعجب منها. منها على سبيل المثال". يريد نوح أن يعودنا ليس فقط علي العناوين الطويلة ولكن أيضاً على الاستخدامات اللغوية التي نتجنبها عادة من باب على جماليات اللغة، ومن ذلك تكراره نفس الكلمة بعد النقطة "منها. منها".. وهو يفاجئنا في النص بتكرار فقرات كاملة من صفحة لصفحة.. يخاطب القارئ حيناً ويخاطب أبطاله حيناً آخر.. يحكي لنا بنفسه تارة وينسحب من الحكي تارة أخرى لينتظر معنا كيف سيتصرف الأبطال.. يمزج الواقع بالأسطورة والماضي بالحاضر فيحدثنا عن حمدي غيث وعبد الرحمن الأبنودي بينما تدور أحداث الرواية في القرن التاسع عشر.. يعطينا المعلومات بالقطارة ويتعمد الغموض ليتركنا في حيرة من أمر شخصياته. قراءته ممتعة لكنها مرهقة، ولا أخجل من القول إنني أعدت قراءة بعض الفقرات مرتين وقارنت ما قاله عن شخصياته في صفحات مختلفة فماذا فعلت بقارئتك الشغوفة يا نوح؟
***
يضللك عنوان رواية "أحوال مظلوم" إن ظننت أن الرواية تحكي عن مظلوم واحد هو البطل مظلوم بطرس بطرس بولس العريان، ذلك الشاب ذو الأذنين الكبيرتين كأذني الكلب والملامح الصارمة والرائحة العطنة التي لا تزول مهما اغتسل. يساعد في خداعنا أن الكاتب يسهب في شرح الظلم الذي وقع علي مظلوم بداية من اسمه الذي فرضه الجد، مروراً بسخرية الخوجة من غبائه، وانتهاء بمحاباة أبيه لأخيه الأصغر مرقص واختصاصه بالثروة، فعائلة مظلوم عائلة أسيوطية غنية. نظل إذن أسرى هذا الانطباع بأن صاحبنا مظلوم هو المظلوم الوحيد وذلك حتى الثلث الأخير من الرواية لنفاجأ أن مرقص أيضاً مظلوم.. بل مظلوم جداً، ألم أقل لكم إن الكاتب كان يعطينا المعلومات بالقطارة؟ مرقص الذي كان الابن المدلل لأبيه تحول إلى مظلوم.. بل مظلوم جداً في اللحظة التي قرر فيها أن يُغير مذهبه من الأرثوذوكسية إلي الإنجيلية. كان مرقص يتردد علي الإرسالية التبشيرية وكان نشاط التبشير في أوجه في تلك الفترة، ومن خلال تردده أعاد النظر في كثير من معتقداته الدينية: طبيعة السيد المسيح واحدة أم اثنتان، أسرار الكنيسة السبعة حقيقية أم لا، متي يتحقق الخلاص بالضبط، أصوام الكنيسة وجدواها.. إلخ. اعتنق مرقص الإنجيلية وتزوج ابنة عمه وأدخلها معه في المذهب الجديد فقامت القيامة لأن ابن كبير كبراء المحافظة وحفيد المقدس بولس الكبير الذي حج إلي فلسطين مرات عديدة قد دخل دين المبشرين. يصف الكاتب تعذيب مرقص بأنه كان كمثل تعذيب المسلمين الأوائل علي يد الكفار ولعلهم حتى صلبوه، سحبوا منه كل الثروة، حرموه من أبنائه وتركوه يرحل مع زوجته بعد أن أخلوا مسؤوليتهم لو قتله عابر سبيل. هكذا دخل سعيد نوح في قضية العلاقة بين المذاهب المسيحية من أوسع الأبواب، ومظلوم نفسه مر من هذا الباب، فلقد أحب الراهبة أوديت في الإرسالية الإنجيلية لكن رئيس الدير رفض التصريح لها بترك الرهبنة وقام بإبعادها إلى دير آخر في سوهاج، أما ما حدث لقصة حب مظلوم وأوديت ففي لحظة فهمتُ أن أوديت تزوجت من مظلوم ثم ماتت، وفي لحظة أخرى فهمتُ أنه لم يتزوجها ولذلك قرّبه منه أبوه واستأمنه على ثروته بعد أن أبعد ابنه المارق مرقص.
***
لا يمكن أن أقيم علاقة تلقائية بين ثورة يناير وإثارة قضية شائكة كقضية العلاقة بين المذاهب المسيحية، لكنني أضع هذه العلاقة في الحسبان. وعلى أي حال فقد خاض سعيد نوح في أراض أخرى شائكة كثيرة، تعرض مطولاً لحياة الرهبان وحرر العلاقة بين الرهبنة والمثالية فها هو قمص يهرب مع امرأة عشق صوتها وهي تعترف، ولا ننسي أن للكاتب رواية سابقة هى "أحزان الشماس" جال فيها داخل الأديرة وجعل من القس "متي" شخصاً شريراً كل همه أن يصير رئيس الدير. كذلك شكك الكاتب في بعض الصور النمطية والتصورات السائدة عن الشخصيات الدينية، ورمى لنا في الطريق أسئلة كبيرة جدا. وأخيراً لفتنا إلي النفاق العابر للأزمان كما الأديان عندما رد بطرس بولس على سؤال إبراهيم باشا قاتل والده "هل أنت حزين لموت أبيك؟" فقال "لم يمت أبي مادام مولاي الأمير حياً !".
الكاتب الكبير سعيد نوح: تشرفنا .