لزوم إصلاح سفن الأسطول، أنشأ محمد على ضمن جيشه العظيم فرقا من الصنايعية مهمتهم إصلاح أعطال السفن، ولأنهم اعتادوا استخدام البلط فى عملهم، فقد عرفوا بالبلطجية.
وقيل إن أصل الكلمة تركى، وأنها تعنى الموظفين الذين يعملون فى بلاط الوالى، وأضيفت لها «جى» على الطريقة العثمانلية، كأن نقول مكوجى وجزمجى وأجزجى و«برمجى».
وقيل ثالثا إنها لفرقة فى الجيش التركى عنيت بقتل مصابى الحروب الميئوس من شفائهم بـ«البلط»، ولا بأس من «تقليب» الزبون قبل قتله، وتخفيف أحماله وجيوبه قبل أن يلاقى وجه رب كريم.
المهم أن الكلمة انتهت إلى دلالتها السيئة التى نعرفها الآن، لكننى أزعم أنها لم تكن بهذا القدر من الشيوع كما هى اليوم، فقد عشنا عصرا كاملا من البلطجة، بلطج فيه الرئيس السابق وعائلته وزبانيته، وجثموا على أنفاسنا ثلاثين عاما قهرا وقسرا، واستلزم ذلك أن «يبلطجوا» حياتنا كلها، فبلطجوا السياسة والاقتصاد والقضاء والتعليم والشرطة والإعلام والصحة، أى أوجدوا فيها ما ليس منها، وزرعوا فى تربتها ما يضمن إعوجاجها وانحرافها عن أهدافها، ومزّقوا كل ما قامت عليه من قوانين وأعراف وقيم.
تم تنفيذ المخطط بأناة وبنفس طويل، وكان منطقيا أن يتشرب العاملون فى كل القطاعات التى طالتها عمليات البلطجة سياسة العهد الجديد، وأن يتكاثروا بمرور السنين، وأن يصبحوا هم القاعدة ومن دونهم الاستثناء، وأن تتشكل أبنية هرمية تميّز بين البلاطجة القابعين فى القاعدة، وأسيادهم الرافلين فى نعيم القمة، فيعمل الصغار على تنفيذ مخططات الكبار، قانعين بالحماية والفتات، الذى يحفظ بقاءهم بالكاد، ويضمن ولاءهم إلى الأبد.
هذا النمط من البلطجة الممنهجة، هو الذى أشاع الرشوة والفساد فى ربوع حياتنا، وكرّس لقيم الفهلوة والنفاق والأنانية، بديلا عن الاستقامة والكفاءة وروح الفريق.
صحيح أننا لم نكن مثاليين يوما ما، وأن قيمنا السلبية وجدت دائما بالتوازى مع نظيرتها الإيجابية، لكنها لم تكن غالبة كما هى اليوم، فقد شهدت مصر فى عهد مبارك أسوأ وأطول عملية تجريف أخلاقى فى تاريخها، وعمل الرجل ورفاقه من البلاطجة الكبار، على قتل الأمل فى قلوب الناس، وبث الرعب فى نفوسهم مما يحمله المستقبل، فتصحرت عواطفهم،وتضعضع إيمانهم، وصار شعارهم أينما ولّوا وجوههم: أنا ومن بعدى الطوفان.
هذا هو الوجه الناعم من البلطجة، الذى نتغافل عنه بتركيزنا على الطابع الخشن من الظاهرة، والذى يتمثل فى استخدام القوة لتحقيق أهداف فرد أو جماعة، بغير سند من قانون، مع أن الاثنين فى الحقيقة، وجهان للعملة ذاتها، كما أن البلطجة الخشنة، هى المولود الشرعى لمثيلتها الناعمة، فحين غفل الحاكم عن مصالح العباد، وانغمس رجال بلاطه فى جمع المال الحرام وتشييد الفيللات والقصور فوق جثث الناس، تكاثرت العشوائيات، وسكن الناس القبور، وتفشت البطالة والشحاذة وتجارة المخدرات والأعراض، واكتظت الشوارع بالنازحين من بؤر الجريمة وأحزمة الفقر، مدفوعين بالرغبة فى الانتقام من نظام أهملهم إلى حد النسيان.
ولن يكون ممكنا القضاء على البلطجة الخشنة ما بقيت الناعمة، فهما يجريان على «التراك» ذاته، وأحسب أن ثورتنا قامت لهذا، وستفعل إن شاء الله.