ونواصل الحديث عن «كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية» (عن دار العربى للنشر 2019)؛ الكتاب المبنى أساسًا على أطروحة علمية تقدم بها صاحبها للحصول على درجة الماجستير من قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة عين شمس، وناقشه فيها المؤرخ الكبير الدكتور محمد عفيفى، والأستاذة القديرة عواطف عبدالرحمن.
ينطلق الكتاب ببساطة من حقيقة لم يلتفت إليها الكثيرون، فرغم الأهمية البالغة لكتابات هيكل التاريخية، فإن المكتبة العربية ظلت تعانى من ندرة الأبحاث العلمية التى تتناول بالنقد والتقييم إنتاجَه الوافر، خاصة فى مجال الكتابة التاريخية التى له فيها إسهامات كبيرة كانت مثار اهتمامٍ وجدل بين المؤرخين المعاصرين، وكذلك بين قطاع كبير من المهتمين بتاريخ مصر الحديث والمعاصر.
يهدف الكتاب، بحسب مؤلفه الباحث المجتهد يحيى عمر، إلى تحليل كتابات الأستاذ هيكل التاريخية؛ لدراسة تناوله تاريخَ مصر منذ عصوره القديمة حتى العصر الحاضر، الذى تناولَه فى مئات المقالات، وفى حوالى أربعة وأربعين كتابًا من أصل ستة وخمسين كتابًا أصدرها، فقام بمناقشة الكتابات التاريخية عند هيكل وتَتَبُّعِها منذ النشأة، وربطها بالأحداث التى مرّ بها عبر أطوار حياته المختلفة، وتأثيراتها على كتاباته، وكذلك رَصْد تأثير علاقاته مع صُنَّاعِ القرار على تلك الكتابات، ثم دراسة تناول هيكل للمراحل المختلفة للتاريخ المصرى منذ العصر الفرعونى حتى الآن.
خلال ثلاثة فصول سيتتبع الباحث كتابات هيكل منذ بدايات عمله الصحفى ويقسمها لمراحل كى يتمكن من رصد تطورات وتغيرات رؤاه المفاهيمية وانعكاسها على تناولاته التاريخية بشكل عام والتاريخ المصرى بصفة خاصة.
سيتوقف أمام مرحلة الخمسينيات والستينيات التى كان فيها هيكل مقربا جدا من رأس النظام والسلطة المصرية وسيحاول الكشف عن أثر هذا الاقتراب فى ما قدمه هيكل من كتابات (وأغلبها فى تلك الفترة كان مقالات منشورة) شكلا ومضمونا. ويعتقد الباحث أن هذه المرحلة تنتهى بهزيمة 5 يونيو 67 التى ستشكل انعطافة حادة وعميقة فى كتابات هيكل فأصبحت، من ناحية الشكل والأسلوب، أكثر رصانة وأبعد عن التهكم الشخصى واللغة المباشرة فى الهجاء، ومن ناحية المضمون أصبحت الكتابة أكثر واقعية، وحَمَلَت التوجه نحو نقد التجربة فى الداخل ونحو التخفيف من غلواء العداوات مع الخارج، فقلَّ استخدامُ مصطلحاتٍ مثل (الأنظمة الرجعية) فى كتاباته واسْتبدِلَت ــ وقت الحاجة ــ بمصطلحات أهدأ وأكثر قبولًا مثل (الأنظمة التقليدية).
وسيناقش الكاتب بعلمية منضبطة فرضية (الصحفى الأوحد فى العهد الناصرى)، ويصل إلى أن «هيكل» كانت له ثمانية امتيازات مَيزهُ بها النظامُ عن غيره من الصحفيين، مما يجعل لهذه الفرضية تأصيلًا حقيقيا، بالتالى كانت لها تأثيراتها على مجمل كتاباته التاريخية.
على أن أهم ما استوقفنى فى الكتاب فكرتان وضع الباحث يحيى عمر يده عليهما بذكاء شديد؛ الأولى هى إيمان هيكل العتيد بنظرية البطل التاريخى؛ يقول «ورغم أنه ذكر أنه يؤمن بأن الشعوب هى صانعة التاريخ، فإن كتاباته تُخَالفُ ذلك تمامًا، وتوضِّح أنه مؤمن تمامًا بنظرية البطل التاريخى وأنه مُحَركُ الأحداث، فالتاريخ عند هيكل هو التاريخ من أعلى، وليس التاريخ من أسفل، وجُلُّ كتاباته التاريخية مُنصَبة على الرؤساء والقادة ودورهم فى صنع الأحداث، وأن البطل التاريخى عند هيكل يكاد يكون مُطْلَقَ المسئوليات والصلاحيات، لدرجة أنه لا يُسْأَلُ عن الحسابات الدقيقة؛ لأن الذى يَحْكُمُ قَرارَهُ ليس فقط الحسابات، ولكنه الإلهامُ الذى تُنْشِئُهُ صِلَةٌ غير عادية بينه وبين أُمَّتِهِ، وأنه فى حالة الأمة العربية فى العصر الحديث فإن البطل تَجَسَّدَ فى شخص جمال عبدالناصر».
وفى نظرى فإن هذه الفكرة هى أحد المفاتيح الرئيسة لفهم كل ما قدمه هيكل من آراء وتحليلات عن عصر عبدالناصر وما تلاه،
أما الفكرة الثانية والمهمة أيضًا فهى تفرغ هيكل للتأليف الصرف وما لازمها من تحولات على شكل الكتابة ومضمونها، ولغة التناول التاريخى، واعتمادها على الوثيقة، وكيفية توظيف الوثيقة، ويرصد الباحث هذه المرحلة ببراعة، مؤكدا حدوث تحولات جذرية لدى هيكل فى تلك الفترة التى يحددها بخروجه من الأهرام (1975) وحتى طلبه الاستئذان والانصراف عن الكتابة (2013).
وأخيرا يقدم الكتاب ملحقا ببليوجرافيا وثبتا وثائقيا شديد القيمة والأهمية لكل أعمال الأستاذ هيكل مثبتا تواريخ نشرها الأولى وأماكنها.. إلخ. مثل هذه الكتب تستحق القراءة والمراجعة والنظر.