بعد أن هدد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بتحويل كندا إلى الولاية الواحدة والخمسين، واحتلال جرينلاند، يبدو أنه جاهز الآن لقبول كوكب أقلّ حجما، هو إسرائيل، التى ستنضم إلى خريطة الولايات المتحدة. صحيح أنه توجد فى إسرائيل حكومة وبرلمان (حتى لو كان الحديث يدور حول مساحة خيالية)، ويوجد فيها أيضا رئيس دولة، لكن دائما ما كانت القرارات المصيرية التى تتعلق بوجودها وأمنها واقتصادها، تتطلب «اتفاقا وتنسيقا» مع واشنطن. وإن كانت هذه المجالات الثلاثة لا تطرح جديدا لأن إسرائيل تعتمد، منذ عشرات الأعوام، على المساعدات العسكرية والاقتصادية التى تحصل عليها من الولايات المتحدة، فقط تمّ الآن، إضافة مركّب جوهرى آخر إلى عصا السيطرة الأمريكية، والذى يمكن تسميته بالحصانة الأخلاقية لإسرائيل.
سابقا، كانت الميزات القيمية لإسرائيل بمثابة أصول استراتيجية: الحلف الذى بنته مع الولايات المتحدة استند إليها فى الأساس، وبدرجة أقلّ، إلى المصالح. كما أن شعار التسويق لـ«الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط»، ولقيَم العدل والقضاء وسلطة القانون الثابت، إلى جانب ذكرى المحرقة، أمور كلها حسّنت مكانة إسرائيل كدولة تستحق الحماية بأى ثمن، وليس فقط فى الولايات المتحدة. هذه هى الأساسات الصلبة، ورؤساء الولايات المتحدة تنافسوا على مدار أجيال على مَن يكون «الصديق الأفضل لدولة إسرائيل»، حتى لحظة وصول حكومة بنيامين نتنياهو التى بدأت بنزع أصول الدولة.
وها هو ترامب، الذى لا يبدى أى اهتمام بالتفاهات الليبرالية، وبقيَم الأخلاق، أو الإرث والعدل وحقوق الإنسان ومكانة الأقليات، أو حرية التعبير، بات المخلص الأكبر للدولة التى فقدت طريقها وضميرها.
الكاتب الألمانى سيباستيان هافنير كتب عن سنة 1923 فى كتابه، الذى تقشعر له الأبدان، تحت عنوان «قصة ألمانى»، بأنها السنة التى بدأت فيها «المسارات» التى تم تشخيصها بعد عشرات الأعوام فى إسرائيل. وقال «هناك جيل كامل فى ألمانيا فقد عضوا مهما من الروح: العضو الذى يمنح الإنسان الاستقرار والتوازن والتفكير الصحيح، وهو عضو يعتبرونه أحيانا الضمير، وأحيانا أُخرى، الفطنة والذكاء، أو الأمانة، أو الأخلاق ومخافة الرب». وبحسبه، فإن هذا «الجيل تعلّم حينها ــ أو كان مقتنعا بأنه تعلّم ــ أنه يمكن العيش من دون هذا الوزن الزائد». فى دولة إسرائيل، حيث يعامَل المخطوفون وعائلاتهم وداعموهم على أنهم خوَنة، ويتعاملون مع جهود تحريرهم على أنها سكين فى ظهر الأمة، وعبء جانبى يهدف إلى منع النصر المطلق، تقلّص «عضو الضمير»، وبات صغيرا جدا، حتى تبخّر تقريبا.
بعدها، جاء ترامب وتدخّل بما تقوم به ما تُسمى حكومة إسرائيل، والتى داست على شعار «سنقوم بكل شىء ممكن» من أجل تحرير المخطوفين، وبلهجته العنجهية، أخذ منها صلاحية تحديد حدود الأخلاق والضمير الخاص بها. ترامب الذى هدد بفتح أبواب جهنم على «حماس»، ومنح إسرائيل رخصة كاملة لـ«إنهاء العمل»، يشرح الآن ماذا يعنى «القيام بكلّ شىء»- حتى لو كان الثمن بدء مفاوضات مباشرة مع «حماس» وتطبيق وقف إطلاق نار طويل والتزام بالاتفاقيات التى وقّعتها إسرائيل بنفسها.
هناك مصاعب فى الائتلاف؟ إنهم يهددون بتفكيك الحكومة؟ فى نظر ترامب، هذه ليست سوى أمور هامشية تشير إلى عدم قدرة نتنياهو على القيادة. الآن، ترامب هو أمل إسرائيل، ومن غير المهم بتاتا ما هى دوافع هذا الشخص الذى لا يلتزم بأى حدود. وإذا نجح فى فرض ما كان يجب أن يكون بديهيا، بالنسبة إلى حكومة إسرائيل ــ وهو أنه يجب على الدولة أن تلتزم بالعقد الموجود بينها وبين مواطنيها ــ فإنه يستحق الشكر العميق.
تسفى برئيل
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية