«اللغة» تصنع الأزمات وتشكِّل العقول - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:36 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«اللغة» تصنع الأزمات وتشكِّل العقول

نشر فى : الثلاثاء 14 يونيو 2022 - 8:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 14 يونيو 2022 - 8:25 م
نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا بتاريخ 12 يونيو للكاتبة آيات نوير، تناولت فيه تأثير اللغة على مصائر الدول، والاستراتيجيات اللغوية التى تستخدمها وسائل الإعلام للتأثير على الرأى العام.. نعرض من المقال ما يلى.
أظهرت الأحداث والأزمات المتلاحقة، سواء فى منطقة الشرق الأوسط أو فى الغرب أو حتى على المستوى الدولى ثمة اختلافات فى الطريقة التى تعبر بها وسائل الإعلام عن الأحداث المتشابهة. كما بدا ذلك فى الحديث عن اللاجئين الأوكرانيين فى مقابل الحديث عن اللاجئين من الشرق الأوسط أو أفريقيا. وقد انتشرت فى الأيام السابقة موجة من السخرية حول تغطية جريدة نيويورك تايمز لمقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، حين استخدمت الجريدة كلمة «وفاة» فى عنوان الخبر «وفاة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة عن عمر 51 عاما» وكأن موتها جاء طبيعيا وليس بفعل فاعل، وهو على النقيض تماما من تغطية الجريدة نفسها لمقتل صحفى أمريكى (يعمل لصالحها) قرب العاصمة كييف فى ظروف تشبه كثيرا ظروف مقتل أبو عاقلة، ولكن كان عنوان الخبر هذه المرة «مقتل الصحفى الأمريكى برنت رينو فى أوكرانيا». المنصة الإعلامية نفسها والواقعة نفسها تقريبا، ولكن كلمة واحدة كشفت تحيزات ونوايا صانعى الرسائل الإعلامية.

اللغة والأزمات التاريخية
للغة بالغ الأثر على جوانب عديدة من حياتنا، ولا نبالغ إذا قلنا إنها قد تغير مصائر دول، فكلمة واحدة قد تؤلب شعوبا على شعوب، ففى حادثة تبدو طريفة الآن أخطأ عالم اللغة الكبير ستيفين سيمور فى ترجمة كلمة الرئيس الأمريكى كارتر فى وارسو عام 1977 والتى قال فيها إنه جاء إلى بولندا ليتعرف على وجهات نظر الشعب البولندى ورغباته. ولكن ما نقله المترجم بالبولندية هو أن الرئيس الأمريكى «يرغب فى البولنديين جنسيا» ذلك لأن المترجم العتيد أخطأ فى ترجمة كلمة «desire» وهى ترجمة أثارت دهشة الشعب البولندى وغضبه حينها، ولكنها صارت مادة للتندر بينهم لاحقا .
ولكن عواقب الكلمة لا تكون بهذه الطرافة فى كل مرة، فكلمة واحدة قد تشعل حروبا وتبيد شعوبا. فقبل الغزو الأمريكى للعراق، تمت ترجمة كلمة «failed» إلى «امتناع» فى إحدى فقرات قرار مجلس الأمن رقم 1441 الخاص بنتائج تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية على الأسلحة بالعراق، والتى جاء فيها «ولا سـيما بامتناعـه عـن التعاون مع مفتشى الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعن إتمـام الأعمـال المطلوبـة»، ولا يخفى على القارئ أن كلمة «fail» فى الإنجليزية تعنى عدم النجاح فى تحقيق أمر ما، مما يعنى أنه ثمة مجهود بُذل، لكنه لم يأت بثماره، ولكن الكلمة تُرجمت فى النسخة العربية بأسلوب يوحى بتعمد العراق ألا يتعاون مع الوكالة. وذلك للتمهيد للرأى العام العربى الغزو الأمريكى للعراق بل وأنه مشروع نظرا لتعنت العراق.
وإذا كانت النماذج السابقة تعكس مدى خطورة الاستهانة باللغة والتكلفة الباهظة للأخطاء اللغوية التى تحدث سهوا أو عن غير عمد، إلا أن التلاعب العمدى باللغة لتوصيل رسائل محددة بطرق ضمنية وغير مباشرة هو ما يحدث يوميا، فكثير من المحتوى الإعلامى، والخطابات السياسية وغيرها تتضمن تكتيكات لغوية للتأثير على الشعوب بالطريقة التى يريدها صانع الخطاب. حتى إن هذه التكتيكات تعلمتها واستخدمتها الجماعات المتطرفة فى خطابها، وهو ما ظهر فى مقولة مليكة العرود، واحدة من أشهر الأرامل السوداء: «إن إطلاق القنابل ليس دوريا، فهذه فكرة سخيفة. لكن سلاحى هو الكتابة.. التعبير عن أفكارى.. هذا هو جهادى؛ فبالكلمات، يفعل المرء الكثير».

التلاعب بالكلمات.. والعقول أيضا
التلاعب بالكلمات هو ما تستهدفه الكثير من المنصات الإعلامية للتأثير على الوعى الجمعى للشعوب لخدمة أجندات خاصة تتبعها تلك المنصات وتروج لها. وفيما يلى بعض الاستراتيجيات اللغوية للتأثير على آراء العامة فيما يخص قضايا بعينها، والتى تلجأ إليها بعض وسائل الإعلام حول العالم.

1ــ الذات والآخر
يرى عالم اللغة فان دايك أن من أهم أساليب التأثير الأيدولوجى هى تقسيم الناس إلى فئات وأحزاب، نحن ضد الآخر، ومن ثم إبراز إيجابيات الذات (نحن) وإخفاء سلبياتها من ناحية، وإبراز سلبيات الآخر وإخفاء إيجابياته من ناحية أخرى. وهذا هو الأسلوب الذى تتبعه غالبية المنصات الإعلامية، فإذا ركزنا على منصة روسيا اليوم (RT) على سبيل المثال، والتى تمتلكها الدولة. نجد أنها تقسم العالم إلى روسيا وحلفائها (الذات)، والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة (الآخر)، وتركز العناوين على انتصارات الطرف الأول ومواقفه المشرفة، وعن انهزامات الآخر ومواقفه المشينة.

2ــ الأسئلة البلاغية

الأسئلة البلاغية هى تلك التى يطرحها المرء دون أن ينتظر إجابة، فهو يعرف الإجابة مسبقا ويريد للقارئ والقارئة أو المستمع والمستمعة أن يستنتجها بنفسه. وهذه الأسئلة هى من أكثر أساليب الإقناع شيوعا، لذا نجد أن صحيفة ذا جيروزالم بوست الإسرائيلية قد لجأت لهذا الأسلوب من أجل إثارة الشك فى هوية قاتل الصحفية شيرين أبو عاقلة، حين أبرزت الصحيفة فى إحدى مقالاتها إصرار الجانب الفلسطينى على عدم تسليم الرصاصات من موقع الحادث للسلطات الإسرائيلية، وطرحت تساؤلات مثل: «لِم يصرون على الرفض؟ فى تلميح أقرب للتصريح أن الجانب الفلسطينى قد تلاعب بأدلة الجريمة.

3ــ الإعادة والتكرار
يرى العديد من اللغويين واللغويات أن تكرار كلمات أو عبارات بعينها فى أى خطاب ما هو إلا محاولة لزرع فكرة معينة فى عقل المتلقى والمتلقين. ولم تغب هذه الاستراتيجية عن الساسة عند كتابتهم لتصريحاتهم الإعلامية المهمة، فلقد رأينا تكرار الرئيس المصرى السابق محمد مرسى فى آخر خطاب له للشعب المصرى حين كرر كلمة «الشرعية» 59 مرة فى خلال نحو 45 دقيقة ليؤكد حقه فى الحكم مهما حدث. كما كرر الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب السؤال بصيغة «متى كانت آخر مرة..؟» ليبرز الاختلاف بين وضع الولايات المتحدة وقوتها قبل حكم أوباما وبعده، منتقدا سياسات إدارة أوباما على نحو غير مباشر.
فى الخلاصة، اللغة سلاح قوى قد يحمى وقد يقتل، ومن يستخدم اللغة يدرك خطورة هذا السلاح وأهميته، فيعمد إلى استغلاله للترويج لأيدولوجياته وتحقيق أهدافه عن طريق الخدع اللغوية التى ذكرناها آنفا، والتى لا تمثل سوى غيض من فيض.

النص الأصلى:

التعليقات