البحث عن نسخة جديدة! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 15 يونيو 2025 11:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما توقعاتك لمعارك إسرائيل مع إيران؟

البحث عن نسخة جديدة!

نشر فى : السبت 14 يونيو 2025 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 14 يونيو 2025 - 8:15 م

شخصيات هذه المجموعة القصصية مختلفة ومتفردة، ولكنها تشعر بالوحدة، وتبحث عن لحظة دفء وتواصل، وعن نسخةٍ جديدة لذواتها، وبينما يبدو الماضى مثل طيف يأبى أن يزول، إلا أن الشخصيات تعيش حاضرها أيضًا، وتخترع أسبابًا للبقاء.
فى «سهرة درامية» المجموعة الصادرة عن دار المحروسة، يقطع محمد عبد النبى شوطًا واسعًا فى تعميق أفكاره، بتنويعات وشخصيات مبتكرة، ويقطع أيضًا شوطًا كبيرًا فى تكنيك السرد، وإحكام عناصره، مهما طالت القصة، ومهما انتقل بين الأزمنة والأمكنة.
ربما كتبت الحكايات كلها تحت وطأة شعور بالوحدة، أو رغبة جارفة فى التعبير عن السلاسل الخفية، التى تحبس الناس بعضهم عن بعض، وهم أحوج ما يكونون إلى الاتصال، استلهامًا من عبارة يحيى حقى التى تتصدر المجموعة، أو ربما اختار عبد النبى قصصًا كتبت على فترات متباعدة، ولكنها تردد نفس النغمة. فى كل الأحوال، فإن خيطًا رفيعًا قويًّا يجمع حبّات العقد، ويترك انطباعًا قويًّا فى العقل والعاطفة معا.
يرجع هذا الانطباع أولًا إلى براعة رسم الشخصيات، بحيث يجوز أن نراها كقصص شخصيات فى المقام الأول، ولا ينفصل عن ذلك قوة التعبير عن الحالات التى يشعرون بها، وعلاقتهم العميقة بالذات وبالزمن وبالحياة التى اختبروها.
بسبب التفرد، فإن عدم التكيف، ونوعًا من الاغتراب، يصنع هذه المسافة، وتلك السلاسل الخفية، ولكن الشخصيات ما زالت حيّة، وقادرة، حتى على مستوى اللحظة والموقف، على أن تروّض الحاضر، وقد تستعيد مذاق الحياة المفقود فى بعض الأحيان.
الشخصيات هنا مركّبة، بل إنها تنقسم وتتعدد، لا أقصد فقط انقسامها على طريقة العالم الموازى، أو بوجود نسخة أخرى بفرضيات مختلفة، وفنون القصة والرواية، مثل فن السيناريو، تبدأ دومًا بالسؤال الافتراضى: «ماذا لو؟»، ولكنى أقصد كذلك ما هو أعمق، حيث تبدو الشخصية كائنًا آخر فى ماضيها، والشخصية الراهنة تراقب نسختها فى الماضى بنوع غريب من الحياد، وبدون محاكمات متوقعة، أو مشاعر متضخمة بالذنب، وبدون ندم يفسد الحاضر أو يدمِّره.
إنها شخصيات تعطيك شعورًا بالانفصال والمراقبة عن بعُد، رغم حضور الوعى بهذا الماضى، وبسبب استخدام تكنيك السارد العليم، يتعمّق هذا الانفصال، بعيدًا عن السرد الذاتى الحميم.
لا أفترض أن يكون الكاتب واعيًا تمامًا بهذا الاستخدام، ولكنه كان اختيارًا مناسبًا تمامًا، فمن الواضح أن الإنسان فى هذه المجموعة يُولد من جديد، وبتنويعاتٍ مختلفة، وكأننا أمام نسخ من نفس الشخصية، ليست متطابقة، وإن كانت أيضًا ليست منفصلة بشكل مطلق.
والحقيقة أننا فعلًا كذلك، وبتنويعات لا حصر لها، وإلا كنا غير قادرين على التكيف مع الأزمنة والمواقف، وغير قادرين على الاستمرار.
سأعطيك أمثلة كثيرة عن تلك اللعبة: فى قصة «سهرة درامية» التى تحمل المجموعة عنوانها، وهى من أفضل القصص فكرة وبناء وتقنية، يؤدى حريق فى فيلا عتيقة بشارع الشيخ ريحان، إلى حضور فريق قناة فضائية إلى شقة امرأة عجوز لتصوير الحدث على الهواء، ولكن المرأة تكتشف أن منتج القناة هو ابن صديقتها الراحلة، وابن زوج الصديقة، وكانت المرأة قد أقامت مع زوج صديقتها علاقة جنسية لمرة واحدة.
يحضر الماضى كله بشرارة حريق، ونرى جيل الحلم الضائع، وحياة المرأة التى سارت مع التيار، نراقب شخصية الماضى مثلما نتأمل شخصية الحاضر، من دون محاكمات متوقعة، هى فقط لحظة درامية مكثفة، تعود بعدها المرأة إلى كتابٍ يحكى عن لحظة حريق مشابهة.
فى قصة «قطعة أويما» تنويعة أخرى: عجوز وحيد بعد أن تزوج أولاده، نتأمل ماضيه فى دمياط، وهو يتعلّم الحفر على الخشب (فن الأويما)، ويعشق مدرّسته التى ترتبط بقصة عشق مع من علّمه الأويما، وفى الحاضر، يريد العجوز أن يتزوج من خادمة شابة، وبين الزمنين شخصان مختلفان وعيًا وتفكيرًا، مأساة الماضى التى تسبّب فيها الصبى، لم تمنع العجوز من الحياة، ويستمر الحفر عبر سطور النص، مرة كحفر فى الخشب، ومرة كحفر فى الجسد، ومرة كحفر فى الذاكرة.
وفى «مفاتيح بلا فائدة»، يخاطب عجوز شخصًا يريد السفر إلى الخارج، يحكى العجوز عن تجربة هروبه كسجين سياسى، وإقامته فى قصر منعوه من فتح إحدى غرفه، ولم يحاول هو أن يفتح الغرفة، لأنه كان مشغولًا بقضايا كبرى! نظن أن تناسخًا ما يمكن التعلّم منه، ولكننا نكتشف أن التجارب تتفرق ولا تتكرر، رغم هاجس التواصل والحكى.
فى قصة «عبد الله الآخر» شخصية متفردة هاربة من ظروفها بالمخدرات، ولكننا لا نتوقف عن افتراض انقسام الشخصية، وافتراض حكايات موازية، ومناقشة مدى لزوم الأشياء والمواقف، ومدى تقدير أهميتها فى سردية الحياة، مرة أخرى، نحن أمام هاجس التساؤل وتعدد الشخصية واغتراب التفرد والحنين إلى تواصل مع الآخرين.
هذا الحنين مثل قشة تتعلّق بها الشخصيات لكى تعيش، كما فى قصة «معطف حمدى»؛ حيث ينوب معطف مستورد عن كل الأشياء المفقودة فى العالم، وحيث تتحقق صداقة بين شاب مهمش، وبين بالطو عتيق، ينقل البهجة والثقة والوجود الحقيقى إلى روح تحلم بالطيران والتحرر.
سيتكرر النظر إلى الماضى بعين متأملة محايدة تخلو من اللوم، سنرى ذلك بعمق فى قصة «إقامة طيبة»: الصحفى الباحث عن سر بطل رياضى مختف، يذهب إلى منزل البطل فى الفيوم، تنشأ علاقة تعاطف بينه وبين والد ووالدة البطل الغائب، يبدو الصحفى كما لو كان نسخة من الأب، لا لوم ولا محاكمة للبطل، بل مولد علاقة جديدة، ينسى الصحفى عمله، ويقيم مع العجوزين، ربما كان الصحفى هو البطل والابن المفقود الغائب، بعد حادثة موتوسيكل تسبّب فيها.
وفى قصة «عزيز وبطة» ميلاد جديد لرجل بدين وامرأة بدينة، بعد فشل سابق فى الزواج، ثم قصة حب، واكتشاف لطعم الحياة، بدلًا من حياة معدومة المذاق.
ما أجمل أن نولد كنسخ جديدة من نسخة أصلية منتهية الصلاحية.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات