بالفعل نحن فى المستقبل - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بالفعل نحن فى المستقبل

نشر فى : الأربعاء 14 أغسطس 2019 - 10:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 14 أغسطس 2019 - 10:05 م

يبدو أنه بالرغم من كل ما قرأنا عن مستقبل الأمم والامبراطوريات والأشياء لم يصل إلى علمنا أن المستقبل يمل الانتظار. ينتظر عاما أو مرحلة أو جيلا ولكنه لن ينتظر إلى الأبد البشر ولا حتى القدر و«المكتوب» والمحفور على الحجر. نراه الآن يحط الرحال فى أكثر من موقع. يفاجئ فى بعض المواقع بشرا لم يتوقعوا وصوله ويقابل فى مواقع أخرى بشرا كانوا قد خرجوا منذ زمن لاستقباله فى منتصف الطريق. بعض هؤلاء قضوا فى انتظاره الوقت، طال أم قصر، يذبحون له القرابين ويمهدون الدروب ويتدربون على أنماط عمله ولغته وسد حاجاته.
***
لم أجد غير هذه الصورة أصف بها هذا الكم الهائل من تطورات ومعلومات تدفقت خلال السنوات، وأكثرها خلال الشهور الأخيرة، وأغلبها إن لم يكن كلها يقع تحت عنوان صغته متسليا قبل ربع قرن أو أكثر لأجمع تحته ما استطعت من شواهد توحى بسقوط نظام القيادة المنفردة وحلول نظام دولى جديد، وبمعنى آخر أتابع من خلالها علامات بزوغ قوة عظمى جديدة تفرض على الولايات المتحدة مشاركتها لها فى قيادة العالم أو بكثير من الخيال تركلها فتنحيها جانبا وتنفرد هى بالقيادة المنفردة، فيتخلق عالم القطب الواحد الذى ظل حلما لم تحققه أمريكا على الوجه المرجو. أذكر أننا، أنا وزملاء بتوجهات متباينة، توصلنا إلى أن الصين لن تستعجل خطوات صعودها المتدرج نحو قمة منفردة أو متعددة وإن الولايات المتحدة لن تعترف بقدرة الصين على مواصلة الصعود باعتبارها فى النهاية وفى حكم نظريات الغرب دولة نامية بسقف منخفض. توصلنا إلى أن الصين لن تسعى إلى الانتقال من مرحلة التعاون والاعتماد المتبادل ولكن الحذر مع الولايات المتحدة، القطب القائم، إلى مرحلة التنافس معها وربما الصراع إن لا بد منه إلا بعد فترة يحسن لمصلحة الصين أن تطول. بهذا المعنى، أو المعانى، لن يصل المستقبل فى شكل نظام دولى جديد ويستقر قبل منتصف القرن. ففى ذلك الحين تكون الصين قد وضعت مع حلفائها، ربما فى أوراسيا، منظومة قواعد عمل جديدة لتحل محل المنظومة الراهنة التى صاغتها الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية والاستعداد لقيادة نظام دولى مختلف عن النظام الذى سقط بنشوب الحرب.
أغلب الظن أن الصين لم تلتزم التدرج الذى تمنته واشنطن أو أنها التزمت ولكن تراكم صعودها فاجأ الأمريكيين. أغلب الظن أيضا أن أوروبا الغربية خاب أملها جزئيا ثم نهائيا فى سلامة العقل الذى اتخذ قرارى حرب ضد أفغانستان والعراق. هذا العقل أصبح خطرا على أمن أوروبا ومستقبلها، وبخاصة أن فى روسيا قيادة سياسية بطموحات توسعية وروح انتقامية وفى الصين قيادة لا تخفى نوايا توسعية عسكرية واقتصادية تختفى وراء بنى امبراطورية الهياكل والتنظيم. أغلب الظن كذلك أن تخبط الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط خلال الشهور الأخيرة كشف للصين وروسيا وحلفاء أمريكا فى المنطقة وخصومها، عن عمق العوار فى استراتيجيات الدفاع الأمريكية وأنه كان وراء انحسار الخجل الصينى التقليدى إزاء الإقدام على العمل الدولى فى الشرق الأوسط بكثافة وجرأة غير معهودتين.
***
قبل أيام زار إسرائيل السيد وانج كيشان، الرجل الثانى ترتيبا وحقيقة فى هيكل السلطة الحاكمة الصينية. سمعنا بعدها عن زيارة مفاجئة، قيل كالعادة إن الترتيب لها جرى من قبل، يقوم بها جون بولتون مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومى. هنا أنا لا أبالغ حين أفصح عن اقتناع بأننا أمام دولتين تجاوزتا فجأة نمط صعودهما المتدرج ولكن الحصيف والمبرمج لنراهما يلعبان بعض الألعاب لا يلعبها ولا يقوى على التفنن فيها وتحمل أخطارها إلا الكبار جدا. خلاصة الأمر أننا عرفنا، مثل غيرنا، أن إسرائيل اكتشفت مؤخرا، أو قبل ذلك ولم نعلم به فى حينه، أن الاعتماد الأسطورى الإسرائيلى على الولايات المتحدة لا يمكن أن يغطى وحده جميع احتياجات دولة كانت محاصرة بحكم موقعها وصراعاتها داخل موقع جغرافى محدد فى إقليم لا تتمدد فيه. هذه الدولة تحررت، أو هى تستعد لإعلان تحررها من كثير من قيود فرضها موقعها وظروف صراعاتها، لتمارس علاقات أوسع ليس فقط فى الإقليم ولكن أيضا خارجه وصولا إلى روسيا شمالا والصين فى أقصى الشرق والهند فى قلب المياه الساخنة، وعميقا فى مستقبل يغلى.
عرفنا أن إسرائيل تعرض على الهند تجربتها الفريدة فى إبادة سكان بمزيج من الحسنى والصبر والاستفادة من دعم حلفاء طبيعيين وخصومة أعداء أيضا طبيعيين. أظن أن باكستان لم تقدر التقدير السليم المدى الذى وصلت إليه العلاقات الهندية الإسرائيلية ولا عمق وأهمية التعاون التكنولوجى مع إسرائيل لدى كل من نيودلهى وبكين. أتصور أن إسرائيل فى الوقت نفسه تسعى وراء استثمارات ضخمة لم تعد تقوى على توفيرها دول كثيرة وربما دولة واحدة أو لعلها مبادرة واحدة تضمنها وتنفذها الصين، وهى مبادرة الطريق والحزام. إسرائيل فى حاجة ماسة لهذه الاستثمارات لتطوير ميناءى حيفا وأشدود، والصين فى حاجة ماسة لتشييد هذين الميناءين ومد خطوط مواصلات تزيد من ربط الداخل ببعضه والداخل بطرق مواصلات تاريخية تربط الداخل بالعالم الآسيوى. إسرائيل فى حاجة أيضا ماسة إلى استثمارات صينية ضخمة من داخل قطاعات التكنولوجيا الرقمية المتطورة. بتلك الاستثمارت يمكن أن تحتل التكنولوجيا الصينية جانبا عريضا من السوق العالمية والصينية محل المواقع التى سوف يخليها قطاع وادى السيليكون نتيجة حرب الرئيس ترامب التجارية ضد الصين.
***
أتصور أن جون بولتون يحمل ضغوطا. أحدها منقول عن قادة فى سلاح البحرية الأمريكية يعترض على احتمال أن تقوم الصين بتشييد ميناء حيفا. ترفض البحرية الأمريكية أن ترسو سفنها فى موانئ تديرها منظومة تكنولوجية من تصميم وإدارة خبرة صينية مشبوهة فى أنشطتها التجسسية. سوف يزعم بولتون أن هذا التحذير مبلغ بالفعل إلى جميع موانئ أوروبا الغربية التى تزورها قطع الأسطول الأمريكى بحكم عضوية دولها فى حلف الأطلسى.
قد لا يجرؤ بولتون رغم ولاءاته الصهيونية المتطرفة أن يطلب من إسرائيل الامتناع عن قبول استثمارات طويلة الأجل من مبادرة الطريق والحزام تحت حجة كرر استخدامها فى إفريقيا عن الهوية الاستعمارية الخفية لهذه المبادرة، ولكنه قد يستخدم حجة بديلة يجرى استخدامها فى أوروبا الغربية لتحرض الدول الحليفة ضد مشروع خط غاز نورد ستريم. تقول الحجة إن أمريكا تخشى على أمن حلفائها إن اعتمدوا فى حياتهم على مصدر روسى للطاقة. نلاحظ بهذه المناسبة أن إسرائيل تسعى بالحماسة نفسها لتحصل على اعتماد روسيا عليها فى قطاع التكنولوجيا المتطورة كما تسعى لربط قطاعها التكنولوجى بالمصدر الصينى. هكذا، إن أفلحت إسرائيل فى خططها الجديدة، تكون قد وضعت الأساس لشبكة تجمع أهم مصادر التقدم التكنولوجى فى المستقبل الموجودة فى الولايات المتحدة والهند والصين وروسيا، فرصة قد لا تتاح لدولة أخرى فى العالم فى الأجل المنظور. إنه المستقبل وقد وصل إلى كل من خطط له واستعجله واستعد لمخاطر آتية لا ريب فيها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي