بعد غياب امتد ليومه الخامس عدت إلى بيتى، عدت لأنام فى فراش أعرفه ويعرفنى، عدت لأتعامل مع حمام أحترم قواعده ويحترم تفاصيلى، عدت إلى مكانى وأشيائى وإلى مخابئ أسرارى وملفات أوراقى. عدت والسعادة تصحبنى.. أحاطت بى يوما بعد يوم بل ساعة بعد ساعة، لم تسمح لى بممارسة غضب أو شك أو ملل أو ضيق. بفضلها تغلبت على وساوس تصنعها عادة وتطلقها ظروف وخفايا وتجارب السن المتقدمة.
• • •
قضيت قبل السفر أياما غير واثق تماما من صحة وسلامة قرار أتخذه لصالح الموافقة على السفر مع مجموعة من النساء والرجال وقضاء فترة أجمع فيها الصحبة الطيبة بالمناقشة الجادة وجلسات سمر محببة وحفلات من الأكل الفاخر والخدمة المتميزة. كأى مسن، حسب تجربتى المتواضعة وما قرأت وسمعت، كان يجب أن يتملكنى كثير من القلق. فالسفر، أو حتى الغياب المطول عن المسكن المعتاد يحمل مفاجآت بينما قلب المسن قد يكون غير مؤهل لتحملها. المشكلة، كما لاحظت، تكمن فى حالة عدم اليقين، وهى الحالة التى يتردد بين العامة أنها مرتبطة تماما بحال كل المسنين. أرفض هذا التعريف للمشكلة.
• • •
تقول تجربتى كمسن مراقب ومجرب إن اليقين، وليس عدم اليقين، سمة من سمات كبار السن. المسن لا يتردد عند طلب تلبية رغبة أو حاجة لأنه يعلم يقينا، بحكم تجارب العقود العديدة، ما الذى يريده أكثر من أى شىء آخر ومتى. يعرف لمن يلجأ عند إعلان الحاجة أو الرغبة. لاحظ مثلا أنه لن يلجأ لمن لا يستطيع تلبية رغبته أو حاجته.
• • •
يقينا فى رأيى أن المسن يمارس فى هدوء أرقى درجة من الحب. يمارس الصراحة فى نقاء ونعومة. أعرف أنه لن يكرر ما كان يفعله قبل أربعين أو خمسين عاما حين كان مثل كل من فى مثل عمره متردد اليقين، يخشى أن يقابل إعلانه أو صراحته بما لم يحب أن يسمع أو يرى. قلبه على كفه كما كان يردد الأقدمون.
• • •
المسن متيقن من أن الزمن أصبح محدودا ولن يعود كما تعود عليه فضاء رحبا رهن مشيئته. بالتأكيد لا مسن سوف يراهن بعمره ولا حتى بسنوات منه على هدف أو حلم، فللأحلام سقوف لا يجوز للمسن تجاوزها وإلا أخل بالتوازن الدقيق بين سعادة متوخاة وسنوات مقررة ومتناقصة وعقل يعمل برتابة وحرية وجسد لا يستسلم لوهن أو إكراه.
• • •
يحن المسن كغير المسن، بين الحين والآخر، إلى ما ينعش إنسانيته ويزيل ما يكون قد لحق بمنظومة أخلاقياته وبعض مبادئه من غبار أو صدأ. حانت لى هذه الفرصة يوم تلقيت نبأ موعد تحدد لاجتماع مجلس أمناء مؤسسة اجتماعية شاركت فى تأسيسها قبل ثلاثة عقود أو ما يزيد. أعترف بأننى امتنعت خلال السنوات الأخيرة، أقصد السنوات السابقة على سنوات السن المتقدمة، عن حضور اجتماعات مماثلة لمؤسسات وجمعيات كانت لها جميعا ذات المكانة فى نفسى قبل أن يتدهور حال أكثرها، شاخت قبل أن تفلح أو ترهلت جسما ونحفت عقلا أو عثرت على من يشترى بكارتها بمال غير نظيف ولهدف غير الهدف الذى نشأت من أجله.
• • •
مؤسستى التى أنتمى إليها فخورا وشاكرا لم تخضع لأعاصير زمن لم يرحم مؤسسات وجمعيات خرجت إليه أو دخلته ضعيفة البنية وبقلب مريض وإيمان هش. أحلى ما فى أهل مؤسستى الرغبة المتأصلة فى نفوسهن ونفوسهم للتعلم وإتقان الإيمان بما يفعلن ويفعلون. تأكدت خلال السنوات الثلاثين، تأكدت من على البعد وأنا أراقب وأتسمع وأتأمل أو من على القرب وأنا ألامس الحقائق على أرض الواقع المادى الصعب معظم الوقت، تأكدت من غزارة ما تعلمن وتعلموا ومن قوة الإيمان بجوهر القضايا التى يشتغلن ويشتغلون على تسويتها.
• • •
توقفت لحظات خلال سعيى وراء فهم أفضل لطبيعة هؤلاء الناس. سمعت غريبة حاضرة تتحدث عن أهل مؤسستى بكل الاحترام الذى يستحقه «موظفو» هذه المؤسسة. اعترضت وصححت ما نطقت به قائلا: «عزيزتى: أهل مؤسستى لسن موظفات، هن وزملاؤهن من الذكور، شركاء فى عقيدة وليسوا موظفين فى خدمتها. جاءوا إلى رحاب هذه المؤسسة مراهقين ومراهقات، نضجوا فى رحابها يطورونها ويطورون معها أنفسهم ويحرزون لها ولهم إنجازا بعد آخر».
• • •
حان وقت الإياب. عند الباب وقفت شامخة لتوديعى صاحبة مشروع إقامة هذه المؤسسة. مددت يدى تصافح يدها ولسانى يقول «أحسنت يا صديقتى. فقد نجح مشروعك فى اليوم الذى صارت فكرته عقيدة يعتنقها العاملون فى المؤسسة ويلتزمون مبادئها وقواعدها، يوم صار العاملون والعاملات أصحاب مصلحة فى نجاح المؤسسة وفى نشر عقيدتها».
• • •
بدأت مهمتى فى العين السخنة مزودًا بآمال كبار. عدت منها إلى بيتى بحب أكبر وأعمق لمجموعة من المصريين تثق فى نفسها وتؤمن بما تفعل. والحب كما لا شك تقدرون، أفضل زاد للمسن فى رحلته، رحلة تقع ضمن برنامج أحلى أيام العمر.