التاريخ السياسى للإسلام: خلاصات تحليلية (١) - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التاريخ السياسى للإسلام: خلاصات تحليلية (١)

نشر فى : السبت 14 ديسمبر 2019 - 9:45 م | آخر تحديث : السبت 14 ديسمبر 2019 - 9:45 م

بعد تجربة استمرت أكثر من ١٤ قرنا وما زالت مستمرة، فإن جدلية علاقة الإسلام بالسياسة لا تنتهى ولن تنتهى، فعلاقة الأديان كلها بالسياسة أمر حتمى ومثبت تاريخيا، فبالإضافة للأديان الإبراهيمية، فالعديد من الأديان الأخرى مثل البوذية والشنتوية والهندوسية تقاطعت وما زالت مع المساحات السياسية.
والواقع أن هذا التقاطع بين الأديان والسياسة هو أمر منطقى، فالغالبية العظمى من الأديان تم استخدامها عبر التاريخ كوسيلة للتعبئة ومحاولة خلق هوية متماسكة للصراع على الموارد، وحتى وقتنا هذا، فإن الأديان وحتى فى أكثر الدول ديمقراطية ما زالت تتقاطع مع المساحات السياسية، ولا تقف سوى بضع دول استثناء على هذه القاعدة. وهكذا كان الإسلام كباقى الأديان متقاطعا مع السياسة وما زال وسيظل كذلك!
والحقيقة أنه حتى الادعاء المطروح فى العديد من الدول العربية بواسطة نخبتها الحاكمة من رفض استخدام الدين فى السياسة، بحجة أن الأخيرة تفسد الأول، فما هى إلا مناورة للتخلص من بعض الخصوم السياسيين، لأن نفس هذه النخب لا تستطيع أبدا التخلى عن الخطاب الدينى وعلماء الدين لتبرير سياساتهم!
***
إن أى قراءة للتاريخ السياسى للإسلام، لا مفر فيها من التفرقة بين النص والفعل، بين الرسالة وبين تطور فهمها تاريخيا، بين ما يجب أن يكون بحسب الوحى وما كان بالفعل بحسب تصرفات البشر واجتهاداتهم أو سماتهم الشخصية والنفسية بإيجابياتها وسلبياتها. كذلك فأى مناقشة «علمية» للتاريخ السياسى للإسلام، لابد أن تفرق بين الشخصيات التاريخية الإسلامية وقيمتها ومواقعها الدينية، وبين أفعالهم السياسية باعتبارهم بشرا يتصارعون على الموارد والمناصب والقيم. هذه مسألة لا يمكن أبدا الالتفاف عليها وإلا لا معنى أبدا لتقديم محاولة علمية منهجية لفهم التطور السياسى لتاريخ الإسلام والمسلمين، فالإصرار على أن للإسلام أدوات شرعية للبحث والتدقيق لا يفهمها سوى علماء الدين، تنسف معنى العلم من الأساس، لأن قراءة وتحليل التاريخ لها أدوات، فهم النظم السياسية والعلاقات الدولية لها أدوات أخرى تختلف عن أدوات الفقه مثلا، وعلى مدى عقود طويلة لمحاولة سميت «بأسلمة العلوم» فلم يخرج أبدا عن هذه المحاولة سوى مفاهيم يمكن وصفها بـ«الحضارية»، لكن لم يخرج عنها أبدا أدوات يمكن استخدامها لتقديم تحليل متمايز للنظم السياسية والعلاقات الدولية فى إطار إسلامى.
***
قراءة التاريخ الإسلامى وتحليله بعدسة وأدوات البحث، لا عدسة وأدوات الدعاية أو التبشير أو التبليغ والدعوة، يمكن أن تنتهى بمجموعة من الخلاصات التحليلية على النحو التالى:
أولا: جاء الإسلام كدين «مكمل» و«متمم» لما قبله، لا كدين نافٍ أو ناكر أو مسفه لمن جاء قبله، وهذه حقيقة تنفى تماما السردية الشائعة التى يروج لها البعض من أن الإسلام هو بداية الحضارة وبداية الهداية للانتقال من المجتمع الجاهلى إلى المجتمع المتحضر! الإسلام نصا وفعلا اعتمد روايات شهيرة سواء فى اليهودية أو المسيحية ولكن ربما بتفاصيل أو رؤية مختلفة، الإسلام لم ينفس أو ينكر أو يجهل ما قبله، لكنه أقر بالمنجزات الحضارية التى سبقته وجاء ليكمل ويبنى عليها.
ثانيا: جاء الإسلام برسالة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة تدعو «نصا» و«فعلا» إلى المساواة، ورفض العنصرية والتحرر من العبودية، والقضاء على الاستغلال ودعم الفقراء ورفض القبلية والعصبية، وخلق هوية إسلامية متمايزة بعقيدتها لا بعددها أو ارتباطاتها القبلية أو العصبية. لكن لم يأت الإسلام بنظام سياسى متمايز تاركا السياق التاريخى والحاجة البشرية وظروف الجغرافيا والتاريخ والحضارة لتشكل النظام وفقا للقيم سالفة الذكر! هذه حقيقة تاريخية أخرى تتعارض تماما مع سردية بعض التيارات الإسلامية والتى تحاول الادعاء بأن الإسلام أتى بنظامه السياسى والاقتصادى والاجتماعى المتمايز! الحقيقة أن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان لا يمكن تحقيقها إلا بإرساء قيم النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وترك تفاصيلها للزمان والمكان وهكذا كانت التجربة الإسلامية بالضبط.
ثالثا: وارتباطا بالنقطة سالفة الذكر، فالدراسة العلمية لنظام الخلافة وبداية حكم المسلمين بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام تنفى تماما أن يكون نظام الخلافة الإسلامية هو أمر دينى أو إلهى، بل هو حدث استدعته الحاجة البشرية لإيجاد نظام حكم يحكم المسلمين بعد وفاة الرسول، هذا النظام السياسى لم يستمر فى شكله المثالى (الخلافة الراشدة المعتمدة على الشورى لا التوريث) سوى لثلاثين عاما، ثم لم تكن الخلافة بعد ذلك سوى نظام للسيطرة والحكم للأقوى والأقدر، نظام قبلى عصبى بحت، أريقت فيه الدماء ودنست فيه المقدسات، ولم يكن فيه شىء إسلامى قط سوى اسمه فقط!
رابعا: الإسلام والشورى، فالحقيقة أن مبدأ الشورى ورغم أنه من المبادئ المحورية فى التجربة الإسلامية سياسيا، إلا أن هذا المبدأ عليه قيدان لابد من استيعابهما، الأول أن مبدأ الشورى كان محدودا للغاية زمنيا، فهو كان قاصرا على فترة الخلافة الراشدة والتى لم تمثل إلا نقطة فى بحر تجربة الخلافة الإسلامية، أى إنها كانت الاستثناء وليس القاعدة! أما القيد الثانى، فهو أنها حتى تلك الفترة المحدودة لتجربة الشورى، فقد كان تطبيقها انتقائيا، فهى أولا لم تطبق حرفيا فى خلافة أبو بكر، حيث إن الاختلاف بين المجتمعين، دفع عمر بن الخطاب لطرح الاسم والحصول على المبايعة، ومن ناحية ثانية فقد استبعد من الشورى فئات كثيرة من المسلمين بل ومن الصحابة لخلافات سياسية بحتة. بعبارة أخرى، ورغم أن الشورى كانت أحد المبادئ التى جاء بها الإسلام سواء نصا فى القرآن الكريم أو فعلا فى تجربة الخلافة الراشدة، فلا يمكن أبدا القول بأنها كانت أحد المبادئ السياسية الراسخة فى التطبيق السياسى للإسلام على مر التاريخ.
خامسا: وحتى مثالية الخلافة الراشدة، لم تكن أبدا مكتملة، فالصحابة باعتبارهم فاعلين سياسيين، لهم أخطاء مشهورة، ولهم تجاوزات معروفة، ثلاثة من أصل أربعة خلفاء راشدين تعرضوا للاغتيال على يد المسلمين، ثم كانت حربا طاحنة انخرط فيها أفراد من بيت الرسول نفسه واختلط فيها الحابل بالنابل وانتهت بالاغتيالات السياسية ثم كان الحكم القبلى على النحو سالف الذكر. ليس من الحقيقة فى شىء الإصرار على وصف ما حدث بأنه «فتنة»، لكنها كانت حربا على السلطة أدرك كل أطرافها أبعادها وخطورتها وأدواتها ولكنهم أصروا على الاستمرار فيها للسيطرة على الحكم والسلطة.
ولنكمل باقى الخلاصات فى المقالة القادمة.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر