ــ 1 ــ
وما زلنا مع الكتاب الممتع القيم «معالم فى طريق تحديث الفكر العربى» للمفكر والمؤرخ اللبنانى الراحل معن زيادة، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، وعرضنا لبعض أفكاره فى مقال الأسبوع الماضى.
من بين أهم المفكرين المصلحين المجددين الذين عرض لهم كتاب الدكتور زيادة، الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1849ــ1905) وهو من هو فى جليل أعماله وعظيم أثره وقوة صيحته (حتى وإن لم يكتب لهذه الصيحة البقاء والاستمرار بذات الحيوية التى أطلقت بها فى زمنها حتى وقتنا هذا للأسف!).
كان الأستاذ الإمام محمد عبده الإمامَ المصلح المجدد الذى حمل شعلة التجديد والإصلاح، وقدم خلال رحلة عمره القصيرة (توفى عن ستة وخمسين عاما) إنجازا رائدا وغير مسبوق، وأصبح الأستاذ الإمام علما على تيار الإصلاح الدينى، ومدرسة التجديد الفكرى والاجتماعى والثقافى، وأسَّس مدرسة حقيقية فى الثقافة المصرية والعربية قدر لها أن تكون المهاد لظهور أعلام الفكر والأدب والنقد والثقافة فى مصر والعالم العربى منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين.
ــ 2 ــ
وأنا فى الجامعة؛ قررتُ أنه بمجرد أن تتوفر لى حجرة مكتب خاصة، فإن أول صورة كبيرة أحب أن تكون فى مواجهتى على الجدار المقابل للمكتب ستكون لمن لعبوا دورا محوريا فى تكوينى المعرفى والثقافى؛ وكان أول هؤلاء الشيخ المستنير رائد الفكر والتنوير والتحديث فى ثقافتنا العربية المعاصرة، بلا منازع، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى (1801ــ1873) رائد الفكر العربى الحديث.
أما الثانى، فقد كان الأستاذ الإمام محمد عبده؛ الذى أتصور أنه التلميذ الأهم والحقيقى والأصيل الذى تخرج فى مدرسة رفاعة الطهطاوى التنويرية الإصلاحية. وهذه الفكرة بالتحديد هى التى استرعت انتباه الدكتور معن زيادة فى كتابه؛ أقصد فكرة الربط أو الوصل بين مشروعى الطهطاوى ومحمد عبده؛ خاصة فى دائرة «التعليم» إذا اعتبر كل منهما أن «إصلاح التعليم» هو نقطة البدء والميعاد فى قيام أو جدوى أى مشروع حقيقى للنهوض والتجديد.
هذا بالطبع لا ينفى تأثر محمد عبده المعروف بأستاذه جمال الدين الأفغانى، صاحب الأثر الكبير والخطير والعميق فى نفسه وروحه وعقله، فهذا ثابت ومعلوم، وإذا كان الإمام محمد عبده لم يخرج عن الإطار العام لفكر جمال الدين الأفغانى، فإنه بالتأكيد قد أغناه ووسعه وقدمه فى صورة متكاملة، مع تركيز على الإصلاح الدينى أكثر من العمل السياسى، واختلاف فى وسائل العمل، ولا سيما بعد فشل الثورة العرابية التى كانت محط آمال الأفغانى وعبده على حد سواء.
ــ 3 ــ
لقد أدرك رواد النهضة العربية فى القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين أهمية التعليم المدرسى فى إحداث عملية التحول الاجتماعى، فاهتم كل من رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك بشكلٍ خاص بتطوير التعليم والإشراف عليه، وتحديث المناهج. رسم الطهطاوى معالم مناهج تعليمية محدثة فى كتابيه الشهيرين؛ «مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية»، و«المرشد الأمين فى تربية البنات والبنين»، ثم أكمل ذلك عبر مجلته التربوية التثقيفية الرائدة «روضة المدارس».
يعلق المرحوم معن زيادة على ذلك بقوله «ومن الواضح من عناوين كتب الطهطاوى التى ذكرناها، وكتبه الأخرى ومن مضامين هذه الكتب وموضوعاتها مدى عناية الطهطاوى بالتعليم المدرسى كطريق للتحديث». وهو يرى أن ما من حركة من حركات الإصلاح والتجديد التالية لهما على اختلاف ما بينهما من اتجاهات إلا وهى صدى، أعمق ما يكون الصدى، لجانب من الجوانب العديدة فى فكر الطهطاوى، ودعوته للارتقاء والتمدن.
وقد حذا الإمام محمد عبده حذو الطهطاوى، وتابع مهمته تلك فى إحداث ثورة حقيقية فى ميدان التعليم متناولا أساليب التعليم خاصة، ذلك أنه كان يرى أنه لا بد لأساليب التعليم هذه من أن تخدم الأهداف التربوية المرسومة، وأهمها عنده تنمية الإدراك العقلى والتفكير الموضوعى. وقد أثمرت جهود هؤلاء فى المساهمة فى إحداث نهضة حقيقية تبعها سقوط لا مجال للدخول فى أسبابه هنا، وإن كنا ندفع مريرا ثمن هذا السقوط وهذا التراجع.
ــ 4 ــ
لقد سعى الإمام محمد عبده مخلصا إلى تحرير الفكر من التقليد، ورفض احتكار تفسير النص الدينى من قبل فئة واحدة، ودعا إلى ضمان حرية الاعتقاد والتفكير، وإلى الابتعاد عن التكفير وعن الغلو فى الدين، بعد أن أرجعهما إلى الجهل بالإسلام الحقيقى، وشدّد على مدنية السلطة فى الإسلام، واعتقد بالتآلف بين أتباع الديانات التوحيدية. وهو صاحب المقولات العقلانية الرائعة فى رفضه للتكفير، ومنها إرساء مبدأ «النظر العقلى لتحصيل الإيمان»، وذكر فى معرض تدليله على مكانة هذا الأصل العظيم قول بعض أهل السنة من أن «من استقصى جهده فى الوصول إلى الحق، ولم يتوقف ومات قبل أن يصل فهو ناجٍ»..
(وللحديث بقية)