أيام لها تاريخ! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 29 يونيو 2025 12:42 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

أيام لها تاريخ!

نشر فى : السبت 28 يونيو 2025 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 28 يونيو 2025 - 8:15 م

(1)

كان من مباهج (مكتبة الأسرة) ذلك المشروع الثقافى التاريخى المؤثر؛ أنها وفَّرت فى سنواته الأولى من تدشينه مجموعة من أقيم الكتب وأنفس النصوص الأدبية والفكرية والتاريخية.. كان ذلك بالنسبة لطالب ما زال فى المرحلة الثانوية بالكاد يوفِّر نفقات تعليمه، حلمًا بعيد المنال، وكنزًا صار واقعًا وبين يديه.
عمومًا؛ كان ضمن هذه الدفعة الأولى من إصدارات (مكتبة الأسرة) للعام 1995 نسخة أنيقة بل شديدة الأناقة من كتاب عنوانه «أيام لها تاريخ» لأحمد بهاء الدين، ويتصدر الغلاف بورتريه جميل يجسد ملامح الكاتب الكبير بريشة فنان البورتريه الأشهر جمال قطب.. وقد كتب على غلافها الداخلى هذه العبارة «دار الشروق: طبعة خاصة مختصرة للهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن مشروع مكتبة الأسرة»، وأدركت حينها لماذا هذه الأناقة وهذه الفخامة وهذه الطباعة المغايرة تماما لبقية الكتب التى تصدر عن المشروع!
بجنيه واحد فقط اشتريت الكتاب من مكتبة هيئة الكتاب بالجيزة، وطرت به طيرانا إلى أن وصلت البيت وشرعت فى قراءته، وكان هذا أول لقاء بينى وبين أحمد بهاء الدين مؤلفا (فقد كنت أعرفه كاتبًا صحفيًا من طبقة الكبار، وإن لم أكن فى ذلك الوقت أجد مقالًا موقعًا باسمه فى الأهرام).
(2)
سريعا آتى على «المقدمة» التى لم أقف عندها كثيرا آنذاك (وإن كنت قرأتها مرات ومرات بعد ذلك)، وأبدأ قراءتى الفعلية بفصل «الأدباتى خطيب الثورة» عن عبدالله النديم، ثم إمبراطورية زفتى، وأقرأ فصلًا عن الأمة بين سعد وعدلى، وأكتشف أن تيارين كبيرين داخل مجال العمل السياسى فى ذلك الوقت سيعرفان باسم «السعديين» و«العدليين».
وأخيرًا أقرأ ما كتبه عن الشيخ على عبدالرازق وقضية كتاب الإسلام وأصول الحكم، وقد أكد لى قيمة وأهمية هذا الكتاب وما طرحه من رؤية ثم ما نتج عنه من جدال ونقاش بل وصراع ومعارك ما زالت محتدمة حتى وقتنا هذا!
هذا تاريخ لا علاقة له بما ندرسه فى الكتب المقررة، لا شكلًا ولا مضمونًا، تجاوزت الخامسة عشرة ومعلوماتى عن تاريخ مصر فيما قبل 1952 «ميح» فلا أعلم شيئًا ذا بال عن ثورة 1919 وأثرها الكبير والعميق والممتد فى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية المصرية طيلة العقود التى تلتها!
ما هذه الحماسة والنبرة الصادقة فى الحديث عن حياة حية خصبة متلألئة بأسماء زعماء سياسيين ومناضلين وطنيين ومفكرين ومثقفين وأدباء وصحفيين؟ يا له من كتاب، ويا له من مؤلف!
(3)
تجربة أحمد بهاء الدين الصحفية والوطنية والإنسانية، أكبر من أن تُختزل فى مقال أو تكثف فى مساحة محدودة مثل هذه؛ لكن الإشارات قد تغنى عن التفصيل؛ فلم يكُن النبوغ والموهبة والاستعداد الفطرى كلها تكفى للوصول إلى القمة؛ فثمة عمل، وعمل كبير جدًا، ودءوب ومخلص لتحقيق الذات والمشاركة بقوة وفعالية فى النشاط العام من خلال منبر الصحافة؛ ربما كان القاسم المشترك الأعظم بين أبناء هذا الجيل الذى ينتمى إليه أحمد بهاء الدين هو «الثقافة»، واستكمال أسس التكوين الثقافى العميق والحقيقى فى تجربة هؤلاء جميعًا، وفى القلب منهم أحمد بهاء الدين نفسه.
كان المرحوم حسنين هيكل يقول: «إننى واحد من الذين يعتقدون أن الفن هو الأب الحقيقى للثقافة فى جميع مجالاتها، ثم إن الفنون التشكيلية هى الحلقة الرئيسية فى قصة الصعود المدهش على سلم الحضارة الإنسانية». كل أبناء هذا الجيل كانوا من كبار المثقفين؛ ملكاتهم اللغوية مذهلة، وقدراتهم التعبيرية ليس لها مثيل، واطلاعهم على الآداب والفنون المحلية والعالمية يدوخك ويبهرك من عمق المعرفة وغزارة المادة ودقة النظر؛ كان ثمة إجماع على أن ثقافة المرحوم أحمد بهاء الدين الأدبية والتاريخية والفكرية «مذهلة».
(4)
صدرت الطبعة الأولى من «أيام لها تاريخ» سنة 1954 أى إنه كان تاليًا لكتاب صبحى وحيدة الخطير «فى أصول المسألة المصرية» (1950) بأربع سنوات، وكان سابقًا لكتاب حسين مؤنس مصر ورسالتها (1956) بعامين، كما كان سابقًا لكتاب «سندباد مصرى» لحسين فوزى (1962) بثمانى سنوات.
مثّل صدور الكتاب حدثًا كبيرًا وفارقًا فى دائرة الكتابة التاريخية الموجهة لغير المتخصصين، فقد فتح الباب واسعًا أمام جيل طموح من المثقفين الواعين وشباب الصحفيين ممن أوتوا الفطنة والموهبة والقدرة على البحث وملكة الكتابة، لكى يخوض الطريق ذاته ويقدموا إسهاماتهم الكبيرة فى تلك الدائرة التى صارت خلال عقدين أو ثلاثة من أشهر دوائر الكتابة التاريخية المحببة والعميقة والمهمة والمؤثرة أيضًا وفى الآن ذاته.
يقول المرحوم صلاح عيسى، فى مقدمة كتابه «حكايات من دفتر الوطن»: «فى يوم من تلك الأيام، عثرت على كتاب صغير للأستاذ أحمد بهاء الدين اسمه (أيام لها تاريخ)، ترددت أمامه قليلًا، ثم غالبت حرصى واشتريته، ولعلى شعرت للوهلة الأولى أنى تورطت فى ذلك، لكنى ما كدت أقرأ صفحاته الأولى حتى غرقت فيه تمامًا، كانت ليلة شتائية باردة، وكنت وحيدًا تمامًا، تدثرت بأغطيتى، والتهمت الكتاب فى نفس واحد، ولم أتركه حتى أتممته»..
(وللحديث بقية)