مشربية الأرمنى ابن البلد! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
السبت 7 يونيو 2025 10:38 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

مشربية الأرمنى ابن البلد!

نشر فى : السبت 7 يونيو 2025 - 5:20 م | آخر تحديث : السبت 7 يونيو 2025 - 5:20 م

1)

تأخرت قراءتى لكتاب العزيز توماس جورجيسيان الصادر عن (دار الشروق) مطالع هذا العام، لانشغالات ومهام لا تنتهى! لكنى أبدًا لا أستسلم لهذه الضغوط، وألوذ بين الآن والآخر لواحة أفىء إلى ظلها من هجير الضغط والوقت استبداد المهام والأشغال!
وَاحَتى هذه المرة كتاب توماس الذى يتقاطع عنوانه مع كتابٍ سابق له بعنوان «فى قلوبنا عشق».. ليس هذا الكتاب الأول الذى أقرأه لتوماس، قرأت له من قبل «الطيور على أشكالها تطير» والكتاب المشار إليه أعلاه، وهذا هو الكتاب الثالث، وفيها جميعًا أقرأ «توماس» الذى أعرفه وأحبه، هو هو من الألف إلى الياء؛ الكاتب «البحبوح» المحب العاشق للحياة والبشر والطيور والحيوانات والزهور والورود.. وكل كليلة! «العشق» عنصر تكوينى أصيل فى تجربة توماس وسيرته، وحياته كلها، ومفتاح من مفاتيح شخصيته العجيبة أيضًا!

(2)
توماس صديقى منذ سنوات طويلة أحبه وأقدره، رغم أنه يغيظنى كثيرًا بنعسة عينه الماكرة هذه وتصديره لوش بلدى «قِرارى» غويط، لما «بيعمل من بنها» أو «يصدر لك الطرشة»، ودن من طين وودن من عجين! رغم ذلك كله أحبه وأحب أن ألقاه، وأن أسعد برؤيته والحديث إليه وقراءة ما يكتب.
أعود إلى سيرته الجميلة «إنها مشربية حياتى.. وأنا العاشق والمعشوق»..
ما أجمل العنوان! وما أصدقه! وما أنصع دلالاته على تلك الشخصية، وسيرتها، وتعبيرها الفذ عن سبيكة مصرية خالصة؛ نموذج فريد فى رحابته وتنوعه وامتزاج عناصر عديدة فى تكوينه، دون أى تنافر أو تناقض أو تصدع أو بروز نتوء هنا أو أشواك هناك!
صفحات ناصعة من حياته، وسيرته الطيبة الغنية الحلوة؛ سيرة فيها التنوع والثقافة والجمال وفيها مصر التى تحب، وفيها الآخر الذى تحبه أيضًا وتتعايش معه بصدق وبساطة وتلقائية آسرة..
(3)
كتابة توماس -فيما أظن- امتداد نقى وخالص لروح المدرسة المصرية «الأنيقة» فى الكتابة الصحفية التى كانت سائدة فى النصف الأول من القرن العشرين، الكتابة التى أرسى دعائمها وشكل ملامحها كبار الكتاب والصحفيين المصريين من أمثال فكرى أباظة، كامل الشناوى، إبراهيم المصرى، ومن تتلمذوا على أيديهم أو تخرجوا فى مدرستهم مثل الكاتب الكبير محمد العزبى.
يدين توماس جورجيسيان إلى هذه المدرسة وتقاليدها التى كانت تقوم، وقبل أى شىء، على مراعاة القارئ والتوجه إليه بكل ما يمتعه ويفيده ويبدد قلقه، ويفتح خطوطًا للتواصل لا تنتهى بمجرد قراءة المقال أو طى الصفحة التى يطالع فيها القارئ مادة كاتبه المفضل!
إن هذه الكتابة تقوم على التواصل المباشر، الدافئ، يحيل الكاتب وقائع سيرته الذاتية، وخبراته الحياتية وتأملاته الإنسانية وخلاصة مشاهداته وعصارة قراءاته إلى مادة مفعمة بالحيوية والمعرفة ملونة بغير قليلٍ من السخرية الناعمة، لكنها فى الوقت ذاته خفيفة (منزوعة الدسم بالمعنى الصحى)، تجدد الطاقة وتمتع البصر وتثير الذهن، وهذا ما يفعله باقتدار توماس جورجيسيان فى (مشربية حياتى).
على مدار الكتاب، يرصع توماس صفحات فصوله بجواهر وكنوز من عيون ما قرأ لكتاب وأدباء وفنانين؛ رسامين وشعراء، فلاسفة وحكماء، لكنها ليست محض نصوص للاستدعاء المجانى أو الاستعراض الممل؛ إنها نصوص كما وصفها صديقى محمود عبد الشكور تطوف بك فى ذاكرة المكان والناس، وتتجاور على صفحاتها كلمات وأفكار وتجارب جبران خليل جبران، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وموراكامي، ويحيى حقي، ووالت ويتمان، وإبراهيم أصلان.. وغيرهم.
(4)
ينتمى جورجيسيان لمدرسة الحياة «بلاد الله.. خلق الله»، على ظهره حقيبته المكدسة بلوازمه الشخصية وأوراقه وكتبه وأقلامه، وفى يده زجاجة المياه المعدنية، يحمل طاقة حب هائلة للبشر والجمال والدنيا ما فيها، ينظر لما حوله بروح طفل وخبرة كهل ورغبة شاب وحياء امرأة مصطنع (أؤكد لك أنه كذلك).
تجرى السخرية منه مجرى الدم، لكنها سخرية محببة، هادئة وناعمة، لن ترى منها إلا بمقدار ما يسمح لك حسب قربه منك أو افتراقه عنك. لكن وفى كل الأحوال ستجد هذه السخرية المرحة، كامنة هي، لكنها تطل برأسها فى جملة أو عبارة أو لفظة أو إشارة أو حتى حدوتة قصيرة ذات مغزى أو بدون!
هذا الأرمنى - المصرى الذى لم يندم على أى لحظة عاشها فى حياته التى عاشها بالطول والعرض والعمق معا، يكتب عن حياته بمنطق العاشق والمعشوق، عن كل فتفوتة فى حياته؛ ولك أن تقف هنا أمام هذه الـ «الفتفوتة» بكل جمال وسحرها وأثرها وإيحائها؛ نفحة من نفحات مولانا يحيى حقى؛
يكتب توماس مثلما عاش ويعيش، يقول عن حكاياته التى يرويها «إنها فى النهايات حكايات أحكيها وحكايات سوف أحكيها، لكى أعيش.. أحكيها لكى أعطى معنى وقيمة لكل لحظة عشتها، ولكل حلم نسجته، ولكل ذكرى رددتها على مسامعى، وعلى مسامع الآخرين».
ولهذا أحب توماس حياته وناسه وأصدقاءه ومعارفه، مهما غاب، تجده حاضرا طيبا مدهشا.. إنها حقا مشربية حياة «الأرمنى» ابن البلد الأصيل!