على لاريجانى، الذى عُيّن قبل نحو أسبوع فقط فى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومى فى إيران، لديه جدول أعمال مزدحم وملف ثقيل يفرض على إيران اتخاذ قرارات استراتيجية فى الأيام القليلة المقبلة. اختار لاريجانى أن يكون أول ظهور دبلوماسى له هذا الأسبوع، بعد تعيينه فى منصبه الجديد، فى كلٍّ من العراق ولبنان؛ زيارتان جدّدتا المخاوف من نية إيران.
فى العراق، وقّع لاريجانى «اتفاقا بشأن التعاون الأمنى»، هدفه المعلن هو محاربة الإرهاب وحماية الحدود، لكن الغرض الفعلى هو «تأديب» الحكومة العراقية، برئاسة محمد شياع السودانى، وضمان عدم سماح العراق باستخدام أراضيه، أو مجاله الجوى، كمسار لشن هجمات على إيران. وبحسب محللين عراقيين، فإن إيران غير راضية عن نية الحكومة العراقية بشأن تفكيك سلاح الميليشيات الموالية لها وإخضاعها للجيش، وتنوى التأثير فى صيغة القانون الخاص بهذا الأمر، الذى بقى مطروحا على طاولة البرلمان منذ أشهر طويلة.
• • •
هل تنوى إيران إحياء «حلقة النار» التى انهار معظمها جرّاء الحرب؟ يبدو كأنها تسعى فى هذه المرحلة «لإظهار الوجود»، والتأكيد أنه على الرغم من تراجُعها فى سوريا ولبنان، فإن دورها لم ينتهِ، وأن لديها القدرة على التأثير، بل حتى تهديد استقرار الدول التى ما زالت أذرعها الضعيفة موجودة فيها. فإذا كانت إيران قادرة فى العراق - شريكها التجارى الأهم، والذى يزوّدها بجزء من حاجاتها من الغاز والمياه والكهرباء - على لى ذراع الحكومة، فإن لاريجانى اصطدم بواقع جديد فى لبنان.
لقد استقبل أنصار حزب الله لاريجانى الأربعاء الماضى فى بيروت. وبعكس العراق، واجه الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومى فى لبنان واقعا مغايرا. فالرئيس جوزيف عون كان واضحا تماما حين قال لضيفه إنه «لن يُسمح لأى مجموعة فى لبنان بحمل السلاح، أو الاعتماد على دعم خارجى (لتأمينه)... وأن الصداقة التى نبحث عنها مع إيران يجب أن تكون مع لبنان كله، وليس مع طائفة، أو مكوّن واحد فقط». والسؤال الأهم: هل ستساعد إيران الحكومة اللبنانية على نزع سلاح حزب الله، وتأمر الحزب بتغيير سياساته، أم ستشجعه على التمسك بخطّه المتشدد القائل إن نزع السلاح «خط أحمر»، والتعامل مع قرار الحكومة اللبنانية فى هذه القضية «كأنه غير موجود»، بحسب تعبير نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم؟ من المستبعد أن يكون لدى القيادة اللبنانية أوهام إزاء النيات الإيرانية، فعندما يصرّح لاريجانى بأن إيران لا تنوى التدخل فى الشئون الداخلية للبنان، ثم يؤكد فى الوقت نفسه أنه لا يمكن لأى دولة «إعطاء أوامر» للبنان، فإنه بذلك يرسم لحزب الله الموقف الذى يتعيّن عليه التزامه.
• • •
بيْد أن زيارتَى العراق ولبنان مرتبطتان مباشرةً بملف أكثر أهميةً – وربما الأهم - الذى يتعيّن على لاريجانى التعامل معه على وجه السرعة، وهو تهديد ثلاث دول أوروبية - بريطانيا وفرنسا وألمانيا - بتفعيل بند «العودة التلقائية للعقوبات (Snapback)»، وهذا يعنى إعادة فرض العقوبات الدولية التى رُفعت عن إيران، بعد توقيع الاتفاق النووى الأصلى فى سنة 2015. يوم الأربعاء الماضى، أرسل وزراء خارجية هذه الدول رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، أعلنوا فيها نيتهم تفعيل هذا البند، إذا لم تعُد إيران إلى طاولة المفاوضات وتتخذ خطوات جوهرية تدل على نيتها إعادة برنامجها النووى إلى الإطار الذى حدّده الاتفاق الأصلى.
جاءت هذه الخطوة، بعد أن انتهت محادثات وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجى مع ممثلى الدول الثلاث فى إسطنبول من دون التوصل إلى نتائج تُذكر، بينما المفاوضات مع الولايات المتحدة مجمّدة تماما. الموعد النهائى لتفعيل بند العقوبات هو 18 أكتوبر، لكن الدول الأوروبية تمنح إيران مهلةً حتى 29 غسطس لإعادة النظر فى موقفها، وإذا قررت استئناف المفاوضات، فإن هذه الدول مستعدة لتمديد الموعد النهائى بضعة أسابيع.
• • •
لكن هذه المعضلة الإيرانية ليست داخلية فقط، ففى مقابل التهديد الأوروبى، تطرح إيران تهديدا مضادا، وهو أن تفعيل بند الـSnapback قد يدفعها إلى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT)، وهو ما يعنى عمليا حرمان المجتمع الدولى من أى قدرة على الرقابة على برنامجها النووى، وهذا التهديد ذو حدّين: فالانسحاب قد يمنح إسرائيل والولايات المتحدة ذريعة لاستخدام القوة العسكرية ضد إيران، حتى لو لم تُقدم على خطوات تدل على نيتها تطوير سلاح نووى.
من الناحية النظرية، إن «اليد الطليقة» موجودة حتى الآن، حسبما أثبتت الحرب ضد إيران فى يونيو الماضى. لكن منذ ذلك الحين، استقر نوع من التفاهم بين واشنطن وتل أبيب على إعطاء المسار الدبلوماسى فرصة، مع الاستمرار فى التلويح بالتهديد العسكرى من دون تنفيذه. هناك سابقة وحيدة للتهديد الإيرانى: كوريا الشمالية التى أعلنت فى سنة 1993 نيتها الانسحاب من المعاهدة، لكنها علّقت القرار فى اللحظة الأخيرة، قبل دخوله حيز التنفيذ، ثم انسحبت نهائيا فى سنة 2003. ومع ذلك، واصلت روسيا والصين الحفاظ على علاقات وثيقة مع بيونج يانج، وهذا ما قد يدفع إيران إلى الاعتقاد أنهما ستواصلان دعمهما، إذا انسحبت هى أيضا من المعاهدة، لكن إيران، كسائر دول العالم، لا تستطيع التنبؤ بطبيعة العلاقات بين واشنطن وموسكو، ولا يمكنها التعويل على دعم صينى غير مشروط فى المدى الطويل.
• • •
ظهرت فى الداخل الإيرانى، وبعد انتهاء الحرب، توقعات أن «يكافئ» النظام الشعب على ولائه، ويبدأ بإعادة هيكلة الاقتصاد. لكن كل ما تمكّن الرئيس بزشكيان من فعله، حتى الآن، هو تعديل قيمة المساعدات الاجتماعية للمحتاجين، عبر بطاقات ممغنطة. أمّا على المستوى العسكرى، فقد بدأ فعلا مسار إعادة هيكلة القيادة العليا، بما فى ذلك إعادة تنشيط المجلس الأعلى للأمن القومى وتعيين لاريجانى على رأسه، إلى جانب سلسلة من التعيينات الجديدة فى القيادة العسكرية.
فى المقابل، حتى الآن، يصعب رصد أى إشارات تدل على نية تنفيذ إصلاحات اقتصادية حقيقية. يمكن أن يكون النظام راضيا لأن الحرب لم تؤدِّ إلى تمرّد شعبى، أو احتجاجات حاشدة تطالب بإسقاطه، وأن التضامن الوطنى والتعبئة الجماهيرية وفّرا مظلة حماية داخلية له. لكن الأوضاع الاقتصادية تبقى خانقة: العقوبات؛ الجفاف وشحّ مصادر المياه؛ ارتفاع تكاليف المعيشة؛ انهيار قيمة الريال الإيرانى؛ أزمة السكن المستمرة؛ النقص فى الغاز؛ انقطاع الكهرباء؛ والبطالة، هذا كله يجعل النظام مضغوطا بين مطالب المحافظين والمتشددين بـ«الصمود» فى وجه ضغوط الغرب، وبين الحاجة إلى إرضاء الشعب وإنعاش الاقتصاد.
عُيّن فى يونيو الماضى سيد على مدنى زادة وزيرا للاقتصاد، وهو حائز على شهادات من جامعتَى ستانفورد وشيكاغو، ويُعتبر موهبة مالية وإدارية تسعى لتعزيز اقتصاد السوق وجعل الصادرات محركا رئيسيا للنمو الاقتصادى. لكن بدا فى الخطة الاقتصادية التى نشرها، قبيل تعيينه، كأنه يدرك تماما ثقل الضغوط السياسية، فامتنع من الدعوة إلى إصلاحات جذرية، وبدلا من ذلك، اقترح الاستعداد لسيناريو فشل المفاوضات مع الغرب، وبقاء العقوبات، واضطرار إيران إلى مواصلة سياسة التقشف الاقتصادى. وهذه الأخبار غير سارة للإيرانيين.
تسفى برئيل
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية