بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا فى أكتوبر 2022، زعم وزير الدفاع الروسى أن أوكرانيا قد تستخدم «القنبلة القذرة» التى لا تحتاج إلى مواد مشعة عالية النقاء، كما فى القنبلة النووية، وإنما يمكن تكوينها من مواد مشعة موجودة فى المستشفيات أو مختبرات الأبحاث، وهذا يجعلها أرخص بكثير، وأسهل فى صنعها من الأسلحة النووية، وآثارها خطيرة على المحيط الذى تُلقى فيه، ولذا فهى مُحرمة دوليًا.
من هنا استعرنا صفة «القَذِرة» لنطلقها على الحرب الحالية التى تشنها إسرائيل ضد غزة وحزب الله وشعب لبنان، لأنها اخترقت كل القوانين المنظمة للحروب، فللحرب قواعد وقوانين وشروط يجب الالتزام بها، أوضحتها القوانين الدولية التى تستدعى فى -حالة خَرقها- المحاسبة من المجتمع الدولى ومنظماته ومَحاكِمه، باعتبارها جرائم حرب أو إبادة جماعية أو أعمال ضد الإنسانية.
دفعتنا هذه الحرب لأن نستعرض آراء فقيهين وقاضيين كانت آراؤهما الحجر المؤسس للقانون الدولى خاصة بموضوعى الحرب والسلام، الأول يمثل الشرق والثانى الغرب، اتفق الفقيهان على ثلاث مرجعيات، لكنهما اختلفا على أولوياتهم!
الأول الإمام محمد بن الحسن الشيبانى الكوفى (131ـ189هـ/ 748- 804م) نشر علم الإمام أبى حنيفة النعمان بتصانيفه المتعددة، مُحدث ولغوى ولُقِّب بفقيه العراق، وتولى القضاء فى عهد هارون الرشيد.
تطرق الشيبانى للقانون الدولى الإنسانى انطلاقًا من ثلاث مرجعيات، الأولى مستمدة من الشرائع السماوية وتصل للناس بالوحى، وتُسمى بـ«القانون الإلهى»، والثانية من «القانون الوضعى» المنقول عن آراء الأئمة والفقهاء، وأما الثالثة فهى من «القانون الطبيعى» الذى نشأ مع خلق الكون، ويستمد قواعده من استنباطات العقل البشرى للظواهر الطبيعية التى يمكن للعقل الإنسانى اكتشافها وإدراكها.
هذا ما توصل إليه الشيبانى فى كتابه «السير الكبير»، حيث أكد أولويته للمرجعية الدينية التى تنص على ثلاثة مبادئ أساسية فى الحرب الأولى: «مبدأ التمييز» بين المدنيين والمقاتلين، واعتَبر هذا المبدأ من أهم أولياته؛ وتمثل المبدأ الثانى فى «الإنذار قبل الحرب»، فقال إن قمتم بقتال قوم فلا ينبغى أن تقاتلوهم حتى تُبَلِغوهم؛ وجاء المبدأ الثالث بـ«النهى عن التمثيل بالقتلى» لضرورة الحفاظ على كرامة الإنسان حيًا أو ميتًا.
وتشير تصرفات ومقولات نبى الإسلام وخلفائه للالتزام القوى بالاعتبارات الإنسانية، فقد قال أبو بكر الصديق فى وصيته الشهيرة لأحد قادة جيوشه: "يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تدمروا مناطق مأهولة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه (...)، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم فى الصوامع؛ فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له».
هكذا يتضح أن الإسلام يُعظِّم المعايير الإنسانية، فهى تشدد على ضبط النفس، وأهمية تجنب الأضرار لتحقيق الهدف المحدد، ونكتفى بشهادة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التى أصبحت وصية على القانون الدولى الإنسانى بتكليف من اتفاقيات جنيف، وبما نشرته مجلة ميشيغان للقانون الدولى حيث قالت: «قبل تدوين اتفاقيات جنيف بأكثر من ألف عام، كانت معظم الفئات الأساسية للحماية التى توفرها تلك الاتفاقيات موجودة بالفعل فى شكلها الأساسى فى التعاليم الإسلامية!».
أما الفقيه الثانى هوجو جروتيوس Hugo Grotius 1583–1645، هولندى ويمثل الغرب، كان أيضًا قاضيًا، وفيلسوفًا وعالم لاهوت، وكان له أثره البالغ على القانون الدولى، وضع مع آخرين أسس نظريته للقانون الدولى مُعتمدًا على نفس المرجعيات التى استند إليها الشيبانى، لكن بترتيب مختلف، فكانت أولويته الأولى لـ«القانون الطبيعى»، والثانية لـ«لقانون الوضعى» والأخيرة لـ«لقانون الإلهى».
• • •
يعتبر هذا الاختلاف فى الأولويات بين الفقيهين جوهريًا لفهم تاريخ ما حدث وما يحدث فى الحاضر، فالشيبانى مرجعيته الأساسية «دينية»، وفى المرتبة الثانية «النقل» وأخيرًا «العقل»، وأما جروتيوس مرجعيته الأساسية «الاستنباطات» المستوحاة من «الطبيعة»، والثانية تعتمد على «العقل»، وأخيرًا المرجعية الدينية، مع العلم بأن كليهما يُقرَّان بأن الحرب حق مشروع للمجتمع وللدولة فى حالة الدفاع عن النفس.
وقد برَّر جروتيوس ترتيب أولوياته لأسباب تاريخية، أهمها أن «القانون الطبيعى» ينقل لنا تصرفات الإنسان والحيوان فى الطبيعة (قانون لا يفرق بين المخلوقَين، مما يجعلنا نطلق عليه - من وجهة نظرنا- «قانون الغاب» حيث البقاء للأقوى وليس للأصلح)، ثم جاءت الأهمية الثانية لـ«لقانون الوضعى» الذى وضعه الإنسان لتحدى نظرية الحق الإلهى لملوك أوروبا فى العصور الوسطى الذين خلطوا الدين بالسياسة، ومن هنا كان «القانون الإلهى» آخر أولوياته، كما يرى أن العقوبات التى نص عليها الإنسان فى القانون الوضعى توفر للناس أسبابًا للإمتثال للقانون، فى حين يرى أصحاب القانون الإلهى أن هناك أسبابًا أخلاقية للامتثال للقانون ألا وهى التعاليم الإلهية، وهذا فارق آخر جوهرى بين الاثنين!
هذا الترتيب فى الأولويات عند جروتيوس أصبح لاحقًا - فى عصر التنوير- مبررًا لتأسيس عقد اجتماعى، وقانون وضعى، وحُكم بنظام جمهورى لا ملكى، وبالتالى حقوق قانونية للمواطنين، ومن هنا تشكلت نظريات القوانين الوضعية الحديثة التى جمعت بين الإلهام من القانون الرومانى والمفاهيم المعاصرة، فقد جرت المطالبة فقط بالقانونَين -الطبيعى والوضعى- أو مرجعيتهما (دون النظر للبعد الدينى والأخلاقى) كعنصر رئيسى فى إعلان استقلال الولايات المتحدة (1776)، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن (1789) فى فرنسا، والإعلان العالمى لحقوق الإنسان (1948) للأمم المتحدة، وكذلك الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (1953) لمجلس أوروبا.
ورغم أن مرجعيات هذين القانونين مستقرة منذ نشأة القوانين المُنَظِمة للحروب، والإتفاق التام على أن «القانون الوضعى» لا يكون عادلًا إذا تعارض مع قواعد «القانون الطبيعى» إلا أن حديثًا وضمن براجماتية الغرب المُدمرة لكل القيم والمباديء الإنسانية، والتى لا ترى إلا مصالحها الخاصة الضيقة والأنانية، يرى بعض رجال القانون مثل كلارنس توماس Clarence Thomas (أحد القضاة التسعة فى المحكمة العليا للولايات المتحدة فى 1991) أنه يجب الامتثال لـ«لقانون الوضعى» فى حالة مُعارضته لـ«لقانون الطبيعى» تغليبًا للمصلحة العامة حتى لو تعارض مع الضمير الإنسانى!
هذا فى شأن الحروب، ويحدث نفس التخريب والتدمير بالقوانين والتشريعات الوضعية، ونذكر على سبيل المثال تقنين «المثلية» الذى يُخالف معًا «القانون الطبيعى» (الفطرة والطبيعة) و«القانون الإلهى»، وبناء على هذه البرجماتية البغيضة تم سَن قانون مخالف للتشريعات المستقرة منذ الأزل، والمتفق عليها بالإجماع منذ الخليقة الأولى!
• • •
نتج عن هذه المخالفات إزدواجية فى المعايير فضحت الغرب، نراها عيانًا بيانًا فى حروب الإبادة الدائرة فى غزة ولبنان، حيث نرى الصمت التام بل والمؤاذرة لإسرائيل ولما تفعله من مجازر وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، ومحاولات لتعطيل تنفيذ أحكام محكمة العدل الدولية التى تأمر إسرائيل بوقف هجومها على غزة، وعرقلة طلبات المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية لاستصدار أوامر باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلى ووزير دفاعه بتهمة ارتكاب جرائم حرب صدرت ضدهما فى 24 مايو 2024، هكذا الازدواجية فى الغرب، يُنادون بالعدالة وبحقوق الإنسان وبالديمقراطية حينما تكون لهم مصلحة فى ذلك، ويتغافلون عنها عندما تتعارض مع مصالحهم!
وهنا يجب التأكيد على أن العقل بطبيعته قاصر، وأنه فى حاجة دائمًا لتعاليم إلاهية لتضبط إنحرافاته السلوكية التى تصل أحيانًا للجنون، ولتدمير النفس ذاتها، والمجتمعات والدول من بعدها، ففى دراسة مقارنة متميِّزة قدمها دكتور محمد دياب بعنوان «قضية الحرب بين الفقه الإسلامى والفقه الغربى عند حسن الشيبانى وهوجو جروتيوس»، توصل بوضوح من خلال هذه المقارنة إلى أن الشيبانى يَعتبر الحرب حالة «استثنائية» يمكن اللجوء إليها إذا تعذر إرساء العدل بين البشر المتوافق مع «القانون الإلهى»، أما جروتيوس فيَعتبر الحرب «قاعدة»، إذ إنها تتوافق تمامًا مع قانون الطبيعة (قانون الغاب)، لكنهما يتفقان فى أن الحرب وسيلة للوصول إلى السلام، وجدير بالذكر أن السلم المبنى على العدل «دائم»، بينما السلم المبنى على فرض الظلم بالقوة «لا يدوم»!
• • •
هذا ما نراه فى واقعنا الحالى، ففى خرق واضح لكل القوانين الدولية التى تؤكد «التمييز» بين المقاتلين والمدنيين، والتفريق بين المبانى المدنية مثل المستشفيات والمدارس.. وبين المنشآت العسكرية فى ساحة المعركة، قامت إسرائيل فى 17 سبتمبر 2024 بهجوم سيبرانى أدى إلى تفجير عدد كبير من أجهزة البيجر فى عدة مناطق لبنانية ما تسبب فى سقوط قتلى بينهم أطفال، وآلاف الجرحى من المدنيين حالتهم حرجة، هذه هى طبيعة إسرائيل لا تفرق بين المدنى والعسكرى، وما حادثة ضرب مدرسة بحر البقر للأطفال سنة 1970 ببعيدة عن ذاكرتنا!
فمن المعروف أن البيجر جهاز لاسلكى لا يمكن اختراقه، ومخصص لإرسال واستقبال رسائل نصية قصيرة، ويستخدم بشكل رئيسى فى المستشفيات والشركات وبين رجال الأمن، وهذا ما كان يبحث عنه حزب الله، وعليه نجحت المخابرات الإسرائيلية فى دفع قيادات الحزب لشراء أجهزة البيجر باعتبارها مثالية لهم، وقامت الموساد بتجميعها فى تل أبيب، واستطاعوا فى البداية التصنت على أعضاء الحزب لمدة 9 سنوات!
ثم نجحوا فى تحويل هذا البيجر إلى جهاز «مُفخخ» مزود بمتفجرات قوية تقتل من يحمله، ففى إنجاز هندسى كبير، تم إخفاء مكونات القنبلة بعناية شديدة فى بطارية البيجر بحيث لا يمكن اكتشافها، حتى لو تم تفكيك الجهاز، ويعتقد المسئولون الإسرائيليون أن حزب الله فكك بعض الأجهزة بالفعل، وربما قام بفحصها بالأشعة السينية، ولكنه لم يكتشف شيئًا، وفى مفارقة لم تتضح إلا فيما بعد، انتهى الأمر بحزب الله بدفع أموال غير مباشرة للإسرائيليين مقابل القنابل الصغيرة التى قتلت وأصابت عناصره!
لا شك أنها أعمال لا أخلاقية تتعارض مع كل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ولحماية المدنيين، لكن لا يجب إغفال الدرس الأهم المستفاد من تفجير أجهزة البيجر، إنه «التقدم العلمى» الذى كان الفيصل فى حسم هذا الصراع، وهنا يجب الإشارة إلى أنه فى الوقت الذى يُسخِّر أعداءنا كل إمكانياتهم لتحقيق تقدم علمى وتكنولوجى لتحقيق النصر، وتقوم المنافسة بين دول العالم للحصول على جوائز علمية مثل «نوبل»، التى تُمنح فى هذه الأيام، تقوم منافسات كبيرة فى الدول العربية على إقامة الحفلات الساهرة والماجنة!
وبعد هذا الشرح المفصل لمعرفة قوانين الحرب وقيودها ومحاذيرها، ومدى مُخالفة إسرائيل لها، نستطيع أن نبرر وصفنا للحرب التى تشنها ضد الفلسطينيين واللبنانيين بأنها «حرب قذرة»، لكنها فى المقابل نَبَّهتنا إلى أهمية العلم والتعليم!
أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) - جامعة الأزهر
الاقتباس
قامت إسرائيل فى 17 سبتمبر 2024 بهجوم سيبرانى أدى إلى تفجير عدد كبير من أجهزة البيجر فى عدة مناطق لبنانية ما تسبب فى سقوط قتلى بينهم أطفال، وآلاف الجرحى من المدنيين حالتهم حرجة، هذه هى طبيعة إسرائيل لا تفرق بين المدنى والعسكرى.