خاض عميد الأدب العربى معارك كثيرة ضد العقل «الغيبى» وضد «المُسَلمات» من أجل العقل «العلمى» و«المنطقى»، فاتبع منهج «العقلانية» لرينيه ديكارت (1596 ــ 1650) أو «الديالكتيكى» (الجدلى) للوصول للحقيقة، وكان ذلك فى جُل كتبه «الشعر الجاهلي»، و«الفتنة الكبرى» (عثمان وعلي)، و«مرآة الإسلام»..، ثم أسس لنوع جديد فى الأدب العربى: السيرة الذاتية، تعتمد على «التعتيم» و«التعميم» ونكران الذات، كما هو الحال فى «الأيام» بجزأيها (1927 & 1939).
كان أول من سطر سيرته الذاتية عند العرب، الطبيب المسيحى حُنين بن إسحق (العصر العباسى، توفى 873م) فى كتاب «طبقات الأطباء»، متأثرا بترجمته لأعمال الطبيب جالينوس (130ــ210م)؛ وفى الغرب، كان جان جاك روسو (1712ــ1778) أول المؤسسين للسيرة الذاتية المعاصرة، فكتب قصة حياته متأثرا بالقديس أوجستين (354ــ430م)، واختار لها عنوانا يعكس مفهوما مسيحيا «الاعترافات» (Les Confessions)، كتب فيها «سوف أمثل أمام الله وفى يدى هذا الكتاب»، تعهد فيها أن يتحرى «المصداقية».
تميزت سيرة روسو بالوضوح فى كل حكاياته، فاستخدم ضمير المتكلم «أنا» مع تحديد الزمان والمكان لكل حدث بدقة، وقام بتوصيف كامل للشخصيات التى التقاها، هكذا بدأ سيرته: «إننى أقوم بمحاولة ليس لها مثيل من قبل (...)، إننى أريد أن أوضح لأمثالى إنسانا فى صورته الطبيعية والحقيقية، وهذا الإنسان هو أنا (...)، ولدت فى جنيف فى عام 1712 من المواطن إسحق روسو ومن المواطنة سوزان برنار»..، لقد ادعى بأن هدفه «تعميم» تجربته فى الحياة من خلال التحليل النفسى الذاتى، فكان السؤال الملح الذى يطرحه دائما: «من أنا؟»، ومن أجل تحقيق «مصداقيته»، التزم روسو بأدبيات السيرة الذاتية: كون وحدة واحدة بين عناصر السرد، فكان المؤلف والراوى والبطل شخصية واحدة هى: روسو.
***
أما طه حسين رغم أن جُل أعماله تتميز بوجود «الأنا» وبالرؤية الشخصية ــ عكس روسو ــ كما هو الحال فى أقصوصته «ما وراء النهر» حيث بدأها بـ: «لست أدرى أين وقعت أحداث هذه القصة، ولكننى أقطع بأنها لم تقع فى مدينة القاهرة»، (فـ«تاء» المتكلم تعبر عن الوحدة بين المؤلف والراوي)، هذا الظهور للأنا وتطابقه مع الراوى لا يظهر فى السيرة الذاتية حيث يجب!
فى بناءه الروائى، ناقض طه حسين أسلوب «الوضوح» لروسو، فعكف على إيقاع القارئ فى حالة من «الغموض» و«التعتيم»، هذا ما استنتجه الكاتب والناقد الفرنسى أندريه جيد André Gide (1869ــ1951) فى تقديمه ترجمة «الأيام» بالفرنسية بقوله: «تشتيت للفكر فى غاية الغرابة، هذا أول ما ألمحه فى بداية قراءة «الأيام»!
تعمد طه حسين «التعتيم» فى كل شيء، استعمل ضمير الغائب، ولم يحدد لا الزمان ولا المكان، وحتى الشخصيات التى تحدث عنها لم يُعرِّفها بأسمائها، ولم يذكر علما واحدا، فكانت أهم الشخصيات «سيدنا»، و«صاحبنا»، و «الفتى»، هكذا بدأ سيرته: «لا يَذكر لهذا اليوم اسمًا، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه، وإنما يقرب ذلك تقريبا، وأقرب الظن أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم فى فجره أو فى عشائه»..!
هكذا أراد طه حسين أن يعيش قارئ «الأيام» حالة «اللا رؤية» التى عاشها، فـ«الصفات تشابه الأسلوب» (أفلاطون)، فهو لم يستطع التمييز بين الليل والنهار، وهذا ما أكده أندريه جيد: «إنه عمل رجل كفيف، فالمؤلف لا يتركنا ننسى هذا الوضع فى كل مناسبة أثناء سرده».. هى إذن سيرة ذاتية يملؤها «الغموض» و«التعتيم»!
***
ويرجع هذا الغموض والتعتيم لأسباب متنوعة، أهمها أولا: الحالة الفيزيقية (الإعاقة البصرية) التى أصابته فى طفولته، وثانيا: تأثره بشعراء الجاهلية، فهم يستخدمون ضمير الغائب، وبالأخص عندما يتكلمون عن «صاحبنا»، وثالثا: الرغبة فى الانفصال عن المجتمع، وعن ماضيه باستخدام ضمير الغائب الذى يسمح له بإنكار ذاته، كما أكده باستخدامه لصيغة النفى، فى أهم عناصر السيرة الذاتية، وهو يوم مولده: «لا يَذكر لهذا اليوم اسما، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله»..! بالإضافة لاستخدامه المبنى للمجهول الذى أكد به عدم مسئوليته عن ماضيه: «ولم ينس صاحبنا قط أنه أُجلس فى مكانه من القطار حين بلغ روما (...)، فلم يُبرح مكانه ذاك إلى جانب النافذة إلا حين بلغ القطار باريس (...)، لم يتحرك، وإنما كان أشبه بمتاع قد أُلقى فى ذلك الموضع»!
أدى هذا الانفصام مع المجتمع ومع الماضى إلى ثنائية فى سيرة طه حسين، فبينما يجب أن نكون أمام شخصية واحدة، يتطابق فيها المؤلف والراوى والبطل، كما الحال عند روسو، أصبحنا أما ثلاث شخصيات مختلفة، وأنتج هذا بما يسمى بـ«السيرة الذاتية المستترة أو متعددة التفاسير» autobiographie hétéroــdiégétique
ومن ناحية أخرى، توحى حالة روسو التى يتطابق فيها المؤلف مع الراوى ومع البطل بمصداقية أحداث السيرة (factuel)، ولكن يحدث العكس فى حالة «الأيام»، حيث يوحى عدم التطابق بأن الروايات المذكورة فى السيرة لا مصداقية لها؛ لأن المؤلف يُنكر مسئوليته، فهى تدخل فى إطار من الوهم والخيال (fiction)، إلا أن هذا ــ فى حقيقة الأمر ــ لن ينقص شيئا من طبيعة السيرة الذاتية فى «الأيام»، لأن هذا الفن الروائى لا يحتوى على درجات، إما أن تكون سيرة ذاتية أو لا، وقد اعتمد طه حسين على فراسة القارئ الذى يطلب منه دائما مشاركته فى تكوين عمله الروائى (كتبنا فى هذا مقال: «القوة وحدها لا تصنع سلاما!» 11/3/2018)، فإن القارئ سوف يلاحظ حتما ــ مع تطور أحداث الرواية ــ أن شخصية المؤلف هى ذاتها شخصية البطل (صاحبنا)، فالقارئ بالتأكيد يعلم الكثير عن حياة المؤلف مما يجعله يربط ببساطة بين أحداث الرواية وبين حياته، خاصة إذا كان فى شهرة طه حسين، وهكذا يستطيع القارئ كشف حيل وخداع المؤلف.
***
كما أن طه حسين لم يترك القارئ فى حيرته حتى النهاية، فكشف عن نفسه فى الفصل الأخير من الجزء الأول «الأيام»، نراه فجأة يتحدث مع ابنته بضمير المتكلم، فيقول لها: «لقد رأيتك ذات يوم جالسة على حجر أبيك وهو يقص عليك قصة (أوديب ملكا)، وقد خرج من قصره بعد أن فقأ عينيه، لا يدرى كيف يسير، وأقبلت ابنته (أنتيجون) فقادته وأرشدته»، ثم يسترسل مخاطبا ابنته: «وما هى إلا أن أجهشتِ بالبكاء، وانكببت على أبيك لثما وتقبيلا، وأقبَلت أمك فانتزعتك من بين ذراعيه، وفهمت أمك وفهم أبوك وفهمت أنا أيضا أنك إنما بكيت لأنك رأيت أوديب الملك كأبيك مكفوفا لا يبصر ولا يستطيع أن يهتدى وحده، فبكيت لأبيك كما بكيت لأوديب». ويستمر طه حسين المؤلف والراوى، فى حديثه مع ابنته بقوله: «لقد عرفته يا ابنتى فى هذا الطور من حياته»، ليتوحد المؤلف والراوى مع بطل الرواية صاحبنا (طه حسين)، فتندمج عناصر السرد الثلاثة فى شخصية واحدة!
هكذا استطاع عميد الأدب العربى أن يبدع فى سيرته بتسجيل اختلافه عن الآخرين، بلغة وببناء روائى هو الأول فى استعماله، لقد كان له هدف جوهرى فى عدم إتباعه الشكل التقليدى للسيرة الذاتية ولإنكار الذات هو «الموضوعية»، عكس «الذاتية» التى اتبعها روسو، مما جعل «الأيام» أكثر مصداقية من «الاعترافات»، وهذا جعل الأولى تدخل فى إطار «التعميم» الذى يعود بالنفع على عموم المجتمع، وخرجت بذلك من دائرة «الخيال»، ودخلت فى دائرة «الواقع»، وعلى النقيض، وقعت «الاعترافات» فى دائرة «الخيال» و«الذاتية»، وخرجت من دائرة «الواقع» و«المصداقية»، وبالتالى أصبحت بعيدة عن «الموضوعية»، وما يؤكد هذه الحالة عند روسو قوله أثناء سرده روايته: «أنا برىء»، فهذا طبقا لمصطلح هيجل «ليس إلا المثول أمام المحكمة»، هكذا تكون «اعترافات» روسو هى فى الأساس البحث عن مبررات ليصبح بريئا، وليس الصدق كما ادعى، فهى ليست محاولة لنقل تجاربه ولكنها محاولة لتبرير أخطائه، أما «الأيام» بنهجها «الموضوعية»، أصبحت بالفعل درسا تعليميا صادقا يستنبط منها «عموم» الناس العبر والعظات، كما أنها ترجمت واقعا تعيشه أمة بأكملها!