صورة الراهبة المصرية ــ ذات الملامح الباكية وهى تحبس أنفاسها وتنظر فى ألم عظيم للدمار الذى أحدثه تفجير الكنيسة البطرسية ــ تنتمى لتلك الفئة من الصور شديدة التأثير التى تلخص الموقف ولا تحتاج إلى تعليق. مثل هذه الصورة كمثل صورة طفل جنوب السودان (قبل الانفصال) الذى كان يحتضر جوعا وقريب منه نسر يتحين أن يلفظ الطفل المسكين أنفاسه فينشب فيه مخالبه، أو صورة الطفل الفلسطينى محمد الدرة الذى احتمى من رصاص الصهاينة بظهر أبيه فما نجا منهم، أو صورة الطفل إيلان السورى الكردى الذى قذفت به الأمواج إلى الشواطئ التركية بعد غرق القارب الذى كان يقل أسرته. تعددت زوايا تلك الصور جميعا واختلفت كادراتها لكنها كانت صادمة لأنها كانت صادقة.
لم تفهم الراهبة لماذا يدفع المرء حياته ثمنا للعبادة، ولا استوعبت لماذا يسقط هذا الطابور الطويل من الشهداء فيما هم يرنمون ويتبتلون ويتأهبون للاحتفال بالحدث العظيم: ميلاد المسيح عيسى بن مريم. اتخذت الراهبة خطوة إلى الخلف وراحت تتأمل مطرقة المشهد الدامى من حولها: البخور الكنسى وقد تداخل مع غبار الجدران المنهارة، الأيادى المتصافحة فى صلاة الصلح وهى رغم شدة الانفجار ما تزال بعد متشابكة، الأشلاء المتناثرة هنا وهناك تبدو مثل كسرات الخبز المغموسة فى النبيذ الأحمر استعدادا لطقس المناولة: هل هو حقا نبيذ؟، الصلبان المتهاوية على الأرض وكأنى بها تبارك الأرواح الطاهرة وقد تحررت من أجسادها وانطلقت مرفرفة فى عنان السماء، المقاعد الخاوية وقد كانت تجلس عليها منذ لحظات نساء وفتيات من كل الأعمار... أفلا يستحى هؤلاء المجرمون؟ ضمت الراهبة يديها فى خشوع وتمتمت دامعة فى صوت خفيض: يا رب ارحمنا.
***
نفذ مدمنو الشر والكراهية جريمتهم فى ذكرى مولد خاتم المرسلين الذى أوصانا بقوله: تهادوا تحابوا، فبئس الهدية التى أهدونا إياها. قلَب هؤلاء المجرمون يومنا رأسا على عقب وغيروا بوصلة مشاعرنا من النقيض إلى النقيض. توالت على هاتفى المحمول عشرات الرسائل من صديقات مسيحيات يهنئننى بالمولد النبوى الشريف فلم أعد أدرى بماذا أرد بعد ما كان: أأقول شكرا على التهنئة أم أقول إنَا لله وإنا إليه راجعون؟. حلت محل عروس المولد عشرات من العرائس اللائى زففن إلى السماء، ونجحت حملة مقاطعة الحلوى التى انتشرت على وسائل التواصل نتيجة غلاء الأسعار لكن نجاحها كان لسبب لم يخطر لمنظمى الحملة على بال. انقبض صدرى حين طلبت صديقة عمرى وقلبها معلق بالكنائس فلم تجب: ماذا دهاك يا علا؟ فى توقيت مشابه قبل عامين لكن فى ظروف مختلفة فقدت أعز صديقاتى، يا رب احفظ علا. لاحقا علمت أنها بخير وحمدت الله كثيرا.
استهدف المسيحيون بحسبانهم مسيحيين ولأن عملا كهذا يصيب مصر فى مقتل، لا يوجد تناقض بين الطائفية والإرهاب بل إن الطائفية أهم دوافع الإرهاب. استهدف المسيحيون لأن لهم دينهم ولقتلتهم دينا، تماما كما يستهدف الجنود لأنهم حماة الوطن والقضاة لأنهم حملة الميزان والنَاس العاديون لأنهم لم يرفعوا راية العصيان. القتلة ليسوا هم من فجروا المصلين بل هم من كفروا وحرضوا وخففوا من وزر القتل والتفجير، هم من سارعوا لنفى صفة الشهادة عن ضحايا المجزرة قبل أن تزال دماؤهم من فوق أرض الكنيسة، ارتدوا ثوب الآلهة وقفزوا بِنَا إلى الدار الآخرة وكفروا وأعتقوا من النار على هواهم، فتاويهم فى جرائدنا ومناهجنا ومؤسساتنا وفوق منابرنا نحلل بها أو نحرم كل ما له صلة بالمختلفين معنا فى الدين، ومن دون أن ننزع عنهم الغطاء ونمد أيدينا فى عِش الدبابير فسوف يظل الفكر يقتل والأمن يلاحق الجناة. لقد كان المشهد الجنائزى بالغ الإيلام حين رفع بعض أهالى الضحايا عقيرتهم بالصياح فيما الموكب الحزين يمر من أمامهم «شهدا شهدا»، وكأنهم بذلك يريدون أن يحفظوا لذويهم الحق فى الأجر العظيم بنيل الشهادة أو يطمئنون أنفسهم أن أحبابهم لن يظلموا مرتين.
***
ومع ذلك فإنه فى جريمة الكنيسة البطرسية كما فى كل جريمة تنتصر فيها قوى الشر فإن ثمة ومضات رائعة تذكرنا بمصر التى تربينا فيها وعشنا قبل أن تهب علينا رياح التغيير العاتية، ففى الوقت الذى كانت فيه الراهبة ترمق مشهد الدمار بكمد شديد كانت ثلة من نساء مصر المسلمات تودعن إحدى عرائس السماء بالزغاريد وبينهن من تهذى باكية «وعدتك بأن أزفك وها أنذا أفعل»، وكان السباق محموما لتنظيم حملات التبرع بالدماء والدعوة عامة لاتشاح النساء بالسواد وإضاءة الشموع أمام نقابة الصحفيين، أما شعار الهلال الذى يحتضن الصليب فقد لمع فوق صدور النساء وغزا مواقع التواصل الاجتماعى من أوسع أبوابها. ما زالت فى هذا الوطن حاجة حلوة رغم المرارة، حفظ الله مصر من كل سوء وأدام عليها تنوعها.