شجون سورية - محمد إدريس - بوابة الشروق
الجمعة 17 يناير 2025 12:07 ص القاهرة

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شجون سورية

نشر فى : الخميس 16 يناير 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : الخميس 16 يناير 2025 - 6:50 م

لم يشأ عام ٢٠٢٤ أن يودّع العالم المثقل المضطرب بالأزمات العضال دون أن يودِع بصمة من العيار الثقيل، تنتهى معها حقبة نظام الأسد الذى حكم سوريا زهاء ٥٥ عامًا، فى بداية كانت درامية ونهاية لا تقل درامية.
وصلت إلى دمشق عضوًا بسفارتنا هناك فى صيف عام ٢٠٠١ وسط ربيع دمشق السياسى الذى تفتحت معه الآمال، وغادرتها فى خريف عام ٢٠٠٥.
لكن ظل التواصل مع الأصدقاء والأحباب السوريين، فى بلادهم وفى مهجرهم قائمًا ومستمرًا. وواقع الأمر أن غالبية هؤلاء مع اختلاف الرؤى والتوجهات غمرتهم سكرة الفرح بالخلاص من نظام أهدر إنسانيتهم وأودى بأحبابهم وسنوات عمرهم. ولكن مع الأمل فى غد أفضل لدى بعض منهم غير قليل غصة فى الحلق وقلق من المجهول.
• • •
الموضوع متشعب متعدد الأركان والأبعاد.. ماضيه عذابات وحاضره التباسات ومستقبله استفهامات. من كلاسيكيات الأدبيات السياسية أن الصراع على سوريا محورى فى الصراع على الشرق الأوسط، ولذا فإن تجليات الساحة السورية مدخلاتها خارجها ومآلاتها تتجاوز حدودها.
نظرية الأوانى المستطرقة دوليًا وإقليميًا حاضرة كما هى ظاهرة فيزيائية فهى فى السياسة كذلك، والحالة السورية نموذج مثالى. فالمشهد السورى صنعته مدخلات، بعضها جغرافيًا بعيد كالحرب الروسية الأوكرانية والصراع الروسى الأطلنطى. وبعضها قريب مجاور؛ فالحرب الإسرائيلية على غزة فى أعقاب طوفان الأقصى فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ توالت حلقاتها وتداعت مآلاتها؛ بدءًا من دمار البشر والحجر فى قطاع غزة، مرورًا باستهداف واستنزاف حزب الله قياداته وعتاده، فاختراقات وإنهاك لإيران، وعلى هذه الخلفية جاءت عملية ردع العدوان من جانب هيئة تحرير الشام وسقوط نظام الأسد.
هل ما حدث كان مؤامرة ذات سيناريو محكم من أطراف أعدّت لكل شىء عدته وتوقيته؟ البعض يظنّ ذلك وليس كل الظن إثما، ولكن النظر للجزئيات المنفردة فى ظاهرها تغشى معه الأبصار عن الصورة الكلية وبواطنها.
نظام الأسد كان منتهى الصلاحية من زمن وضد تياره، سيطرته الفعلية على عموم البلاد منقوصة، وشعبيته مفقودة، والاقتصاد منهار فى قاع بلا قرار. الرافعة التى أحيت عظام النظام كانت روسية/إيرانية بامتياز، وعندما فقدت هذه الرافعة المزدوجة صلابتها، كل لأسبابه المعروفة، سقط النظام وكان صرحًا من سراب فهوى.
الجمود السياسى لقيادة النظام والتصلب المفارق للواقع كانت تكلفته تبديد الفرصة السانحة/الضائعة لإنقاذ ما يمكن وقت إن كان ممكنًا. وخطاب الرئيس بشار شبه المحاضرة فى القمة العربية التى عادت فيها سوريا إلى الجامعة العربية، وكأن الجامعة هى التى عادت صاغرة، كاشف لضبابية الرؤية السياسية. وذلك التعامل بلا حركة مع واقع محلى وإقليمى ودولى مضطرب، شديد السيولة متسارع التغير، أفضى إلى ضياع الوقت والفرصة وتعقيد المعقد أصلاً. فغدا النظام فى دمشق عبئًا على حلفائه، وهى نقطة مفصلية فارقة فى المنطق السياسى، إذ أصبحت تكلفة الدفاع عن الأسد غير مجزية أو مجدية، فضلاً عن كون إمكاناتها لم تعد متاحة كما كانت قبل تداعى تيار الأحداث.
الصراعات المجمدة نمط معتاد فى عالم كثيف التفاعلات، ولكن إبقاءها مجمدة يجعلها قابلة للتناول السياسى عندما تلائم الظروف، إما تحولها من مجمدة إلى فاسدة فيستوجب التعجيل بالتخلص منها ولو بإلقائها فى المجهول. وقد تسرب لاحقًا بعض محتوى زيارة الرئيس– آنذاك - بشار إلى موسكو قبيل السقوط، واللقاء مع الرئيس بوتين بالكرملين؛ من تأخر إتمام اللقاء عدة أيام انتظرها الأسد بالفندق، إلى عدم حضور أى مسئول سورى للقاء، إلى طلب بشار من بوتين المساعدة المباشرة ومساعدة الجانب الإيرانى على نقل وسائل دعمه إلى الأراضى السورية عبر القواعد الروسية، وكان الرد الروسى، بعد تمعن التقارير الاستخباراتية، أنه قد فات الميعاد وأنه مع تغير الظروف تبدّل المتاح والممكن، فضلاً عن تهديد أمريكى صريح بضرب أى طائرات إمداد إيرانية تحاول الوصول إلى سوريا عبر الأجواء العراقية، فأسقط فى يد الأسد مدركًا أن النهاية قد حانت ولابد من الرحيل.
السلطان العثمانى منتش بنجاح سعى إليه ولم يدركه فى حينه، إذ اصطدم بالصخرة الروسية/الإيرانية، فاعتبره مؤجلاً. ثم أدى تداعى الأحداث إلى تغير الظروف إقليميًا ودوليًا، فأحيا مطامح السلطان الذى كان من قبل يلح فى لقاء الرئيس بشار للوصول إلى تفاهمات ولا يلقى استجابة، فوجد الفرصة سانحة لتفعيل خططه المجمدة واستدعاء من استثمر فيهم من الأنصار، ليمضى نحو قطف الثمرة الدانية، ويصبح عرّاب النظام الجديد فى الشام.
• • •
تجدر الإشارة هنا إلى أن المشاريع الثلاثة - غير العربية - المتنافسة على المنطقة العربية والشرق أوسطية، وإن التقت فى هدف امتداد النفوذ وإحكام التأثير، تتباين فى مرجعياتها ومنطلقاتها. فالمشروع الإسرائيلى مؤسس على أساطير الميثولوجيا، ونهجه هو الفرض بالقوة ولا غير القوة سبيلاً. والمشروع الإيرانى تحركه رواسب شعور ثأر تاريخى فارسى ثم صفوى، وأدواته طوق من كيانات الموالاة المسلحة. أما المشروع التركى فيحركه طموح استرداد الوديعة والعودة إلى الجذور فى ساحته الإمبراطورية، وتصور افتراضى بأنه المُرحب به لخلاص الأمة وإزالة الغمة، ووسيلته مزيج من القوة العسكرية والاقتصاد التوظيفى والإسلام السياسى، بمحرك نشط ديناميكى متكيف مع المتغيرات بمرونة عالية من الدهاء السياسى السلطانى الإردوجانى.
تبخُر الجيش السورى أمام زحف هيئة تحرير الشام وحلفائها، يجد تفسيرًا أو بعضه فى غياب الدافع والحافز المعنوى والمادى والاستنزاف والترهل المؤسسى واللوجستى على مدى زمنى ممتد، كما قد يجد باقى التفسير فى نمط الاختراق الإسرائيلى لحزب الله وإيران من الداخل، وشراء وزرع الأعوان فى مفاصل قيادية مهمة، وليس ذلك ببعيد عما هو راجح حدوثه فى سوريا الأسد. وشاهد على ذلك قدرة إسرائيل حتى قبل سقوط النظام على الاستهداف الدقيق المتكرر لعناصر وقيادات إيرانية على الأراضى السورية.
• • •
من المفارقات السياسية الملفتة، أنه عندما كانت سوريا فى قطيعة وعزلة عن محيطها العربى، ظل النظام السورى باقيًا، ومع عودة سوريا إلى الحاضنة العربية سقط النظام، بما يعد كاشفًا بمرارة عن مدى فاعلية هذه المنظومة الإقليمية سلبًا أو إيجابًا. فقد استثمر بعض العرب فى إسقاط النظام القديم وعزله عربيًا، ثم استثمروا فى إعادته وإدماجه عربيًا، ثم فوجئوا بالسقوط المدوى فيراهنون على إحياء الاستثمار القديم برهان جديد، وفى كلٍ تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن. المؤامرة المفترضة هى داخلية بالأساس، ترك الأوضاع الداخلية تتردى فتخلق الظروف الموضوعية للانفجار، وكالعادة تعليق ذلك على شماعة المؤامرة لا يعنى استيعاب دروس التاريخ. أما الأطراف الخارجية فمن الطبيعى أنها تراقب وتحلل وتتوقع وتستعد لكل الاحتمالات بما فيها أسوأها، ولديها سياسة ديناميكية تستفيد بأقصى قدر ممكن مما تتيحه الظروف المتغيرة وتحولاتها.
الدروس المستفادة متعددة؛ فى القلب منها أن الاعتماد على الخارج لا يدوم. وهو ما يتبخر سريعًا من ذاكرة النظم فى المنطقة وتدركه تمامًا شعوبها. المفتاح هنا هو ضفيرة اقتصادية مجتمعية، تجعل المواطن هو الدرع الحامى إزاء غوائل الخارج، وهو أمر لا يتسنى إلا بعقد اجتماعى جديد داخل دول المنطقة مستنير ومستبصر بتعقيدات الحاضر وتحديات المستقبل. وبرؤية عربية موازية متصالحة مع مكوناتها العربية، ومنفتحة بإيجابية على جوارها الإقليمى، ليس من منطلق الاستكانة لأحد المشروعات الثلاثة الرئيسة السالف الإشارة إليها، أو الاستعواض عن القدرة الذاتية بالاعتماد المعتاد على السند الخارجى. ولكن بإدراك عناصر القوة الديموغرافية وتحفيزها باحترام حقوقها وعدم تحييدها أو استعدائها بتجاهلها والجور عليها. وبناء القدرات الوطنية بتوظيف الموارد الكثيرة أو القليلة بكفاءة ورشد، وجعل المشتركات القائمة جغرافيًا وتاريخيًا عوامل تقارب وتفاهم وليس دوافع تجاذب وتنافر.
وهذا حديث يطول عن صيغة عربية إقليمية مأمولة وغائبة، لم ترق ولا ترقى إلى مستوى نظام إقليمى بعد، يكون محورها ما هو التهديد المشترك إن وُجد وأمكن الاتفاق عليه، وما هو الفعل المشترك إن أمكن القيام به (عدا البيانات المراسمية)، وما هو الخطر الكامن لو أمكن إدراكه للسكون وعدم الفعل. وفى المحصلة أن يكون الشاغل هو الفعل المطلوب، وليس من الذى يقوم به ويقود تحركه، فيؤدى التنافس على قيادة المركب إلى ترك المطلوب ولو جنحت السفينة إلى المجهول، على منطق إن لم أكن فيها أخفيها، فيختفى الفعل والمشروع العربى المأمول وتبقى مشروعات الآخرين فننحى باللائمة على المؤامرة.
لعل هذه الشجون السورية تستدعى إلى القلب قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقى التى بدأها: سلامٌ من صبا بردى أرقُ.. ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشق
وصولا إلى قوله: جزاكُمْ ذو الجلالِ بنى دمشقٍ.. وعِزُّ الشرقِ أوَلُهُ دمشقُ

محمد إدريس دبلوماسي سابق
التعليقات