سيميائيات زيارتى أوباما وماكرون للأزهروجامعةالقاهرة - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 19 أبريل 2025 4:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

سيميائيات زيارتى أوباما وماكرون للأزهروجامعةالقاهرة

نشر فى : الأربعاء 16 أبريل 2025 - 6:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 16 أبريل 2025 - 6:55 م

تحظى جامعتا الأزهر والقاهرة باهتمام ملوك ورؤساء العالم أجمع، ولهذا يحرص الكثير منهم على زيارتهما، وتوجيه رسائل للعالم من خلالهما؛ تُمثل جامعة الأزهر الأصولية الدينية، وتُعد قبلة للعالم الإسلامى، يُرسِل منها زعماء العالم رسائل دينية وإنسانية لكل شعوب العالم؛ وأما جامعة القاهرة فقد اتبعت مناهج العلوم الغربية الحديثة، وتُعتبر منارة للعالم العربى والعالم الثالث، ومنها يتوجه كثير من كبار زعماء العالم برسائل سياسية مهمة لكل دول وشعوب العالم، كما يُوجه منها حُكام مصر خطاباتهم المهمة للشعب المصرى وللعالم؛ وكان أول من زارها الملك فاروق، أول مرة عام 1939، كما زارها مرة ثانية عام 1950 احتفالا باليوبيل الفضى وغير اسمها إلى جامعة «فؤاد الأول»، حيث كانت تُعرف بـ«الجامعة المصرية» عند إنشائها فى 1908، وتُعرف باسمها الحالى بعد ثورة 1952، وزارها أكثر من مرة جمال عبدالناصر، وكانت منبرًا مهما له حيث ألقى فيها ــ على سبيل المثال ــ بيان 30 مارس 1968، وأقام فيها أنور السادات حوارات مع الطلبة، ولكن نَسيها حسنى مبارك، وهذا له مدلولاته!

 

 

ومن أشهر من خَصَّ جامعة القاهرة بزيارات ثلاثة رؤساء: الأولى لجاك شيراك رئيس فرنسا الأسبق فى 8 إبريل 1996، افتتح فيها مستشفى القصر العينى الفرنسى التابع لجامعة القاهرة، والزيارة الثانية لرئيس فرنسى جاءت بعدها بتسعة وعشرين عامًا، وهى للرئيس الحالى لفرنسا إيمانويل ماكرون فى 7 ابريل 2025، علمًا بأن فرنسا تعتبر أهم دولة أوروبية فى الاتحاد الأوروبى لأنها الوحيدة منهم صاحبة حق الاعتراض (الفيتو) فى الأمم المتحدة، كما أنها تمتلك سلاحًا نوويًا مستقلًا وبعيدًا عن الولايات المتحدة؛ ومن الجدير بالذكر، أن اختيار الزمان والمكان فى المناسبات الهامة لا يأتِى اعتباطيًا ولا عفويًا عند كبار المسئولين فى الدول الكبيرة، وإنما فيهما إشارات ومدلولات، وهذا ما أسميناه بـ«السيميائيات» (من علم الإشارة semiology)، فاختيار جامعة القاهرة مكانًا لإلقاء خطابات الرئيسين فيه إشارة واضحة بأهمية هذه الجامعة ودورها الريادى، كما أن زيارة الرئيسين جاءت فى نفس التاريخ 7/8 أبريل، فهو تاريخ يتوافق مع فترة احتفالات العالم بيوم الفرانكوفونية (20 مارس من كل عام)، وهذا أيضًا له إشاراته ومدلولاته.
والفرانكوفونية منظمة عالمية تجمع كل دول العالم الناطقة باللغة الفرنسية (Organisation internationale de la francophonie OIF) ، وتضم 56 دولة من بينها مصر، وتولى الدكتور بطرس بطرس غالى (وزير الخارجية الأسبق والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة) منصب أمينها العام من 1997 إلى 2002، وكان آخر ما نتج عن هذه المنظمة -فى عام 2020- اتفاقية شراكة بين مصر وفرنسا لدعم تعليم اللغة الفرنسية بالمدارس الحكومية المصرية، ولصالح 13 ألف معلم وموجِّه للغة الفرنسية بالمدارس الحكومية من أجل تدعيم كفاءاتهم المهنية.
وعن الزيارة الأخيرة فى 7 إبريل 2025، كان الرئيس إيمانويل ماكرون قاصدًا فى إختياره للزمان والمكان، فكانت محطته الأولى جامعة القاهرة، حيث إنها معروفة بتاريخها العريق وشبابها الطموح (حصل اثنان من خريجيها على جائزة نوبل: نجيب محفوظ ومحمد البرادعى)، ويَعلَم أيضًا أنها ليست فقط منارة للتعليم، بل قلب نابض للحوار العالمى، ومختبر حى للتغيير، وصناعة المستقبل؛ لقد أراد أن يكون حديثه موجَّه فى المقام الأول لـ«لشباب»، فترفيع مستوى الشراكة بين مصر وفرنسا إلى شراكة استراتيجية لن يضمنه إلا الشباب: قادة المستقبل.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف يرى ماكرون أن التكوين الجيد علميًا وفكريًا وثقافيًا لهذه الفئة المهمة ضرورة حتمية، فهو لم يخفِ نواياه وأهدافه فى خطابه عندما صرح فى افتتاحيته بأن أهم ما يُميّز المجتمع المصرى أن الشباب يُمثل ثلثى عدد المواطنين المصريين، فهو مجتمع شاب وممتلئ بالحيوية، وهذا على عكس المجتمع الفرنسى الذى أصبح شائخًا حيث عدد الشباب أقلية، فقال: «مستقبلكم هو مستقبل القارة ومستقبلنا جميعًا»، ولهذا كان من أهم نتائج زيارته إعلانه دعمه للبحث العلمي، وعليه تم توقيع 42 اتفاقية بين الجامعات المصرية والفرنسية، شملت 30 برنامجا مشتركًا، يمنح شهادات مزدوجة إلى جانب التوسع فى التبادل الأكاديمى والمنح الدراسية، واختتم خطابه بأن "الاستثمار الحقيقى هو الاستثمار فى الإنسان، والمستقبل يُبنى بالابتكار لا بالاستهلاك».
كما أكد الرئيس ماكرون فى خطابه مرارًا وتكرارًا على قيَم الحرية والإنسانية والعدالة التى تعتبر الأقانيم الثلاث للثورة الفرنسية (1789)، كما دعى لاحترام النصوص، ولكن ذلك لا يمنع من إخضاعها للنقد العلمي، فدعى لضرورة الشك فى كل شىء، وذلك للوصول إلى اليقين، فهذه مدرسة ديكارت René Descartes 1596- 1650 وأهم مقولاته: «أنا أُفكر إذن أنا موجود»، هذه المدرسة الفكرية التى اتبعها طه حسين، أحد العلامات المضيئة لجامعة القاهرة، كما أكد الرئيس ماكرون على ضرورة الابتكار والإبداع والتجديد، والبُعد عن النقل والتسليم بما يقوله الآخرون دون البحث عن الحقيقة والفصل بين الغث والثمين.
• • •
وحتى لا يفهمه أحد خطأ، كانت محطته الثانية زيارة لمشيخة الأزهر حيث قابل فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الذى درس فى فرنسا، إشارة إلى أن فضيلة شيخ الأزهر يُعد نموذجا لما ترمى إليه تطلعات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، كما أنه أكد بزيارته لمشيخة الأزهر أنها مؤسسة دينية لها احترامها ووقارها لما تمثله من وسطية واعتدال، وتصدّيها للتطرف والتعصب بكل أشكالهما، كما تُشير زيارته هذه إلى أنه لا يُعادى الدين الإسلامى.
ومن المؤكد أن اختيار برنامج الزيارة للرئيس الفرنسى ــ من الجانب المصرى ــ كان أيضًا مدروسًا بعناية، ولم يخرج عن القاعدة المذكورة السابقة، فكان موفقًا، لقد أرسل إشارات واضحة للعالم، كما أبرز القوة الناعمة لمصر؛ أن تكون أول جولة للرئيس الفرنسى فى حَى خان الخليلي، وتناول وجبة العشاء مع الرئيس المصرى فى وسط الحشود فى حى عريق إشارة مهمة لكل دول العالم بأن مصر آمنة، كما أنها رسالة واضحة للعالم بأن أهم آثار العالم موجودة فى مصر، زيارة كلها إشارات ورسائل واضحة دون التصريح بكلمة واحدة!
• • •
وأما عن الزيارة الثالثة، فكانت لباراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأسبق الذى جاء بعد جورج بوش الإبن والذى قام بحرب بالتواطؤ مع بريطانيا ضد أفغانستان والعراق بدون موافقة من الأمم المتحدة، واحتلَّ البلدين، علمًا بأن أفغانسان دولة أسيوية/إسلامية، والعراق دولة عربية/إسلامية؛ كان الرئيس بوش الإبن يؤمن بنظرية «صراع الحضارات» The Clash of Civilizations لصامويل هنتنجتون التى تقول بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية والحضارية المحرك الأساسى لهذا الصراع!
أضرت سياسة بوش الإبن بسمعة الولايات المتحدة، وشككت بدعواتها لنشر السلام والديمقراطية فى كل أنحاء العالم، فضلًا عن أنها أشاعت روحًا من العداء ضد الدول الإسلامية والعربية، فأراد أوباما إصلاح هذا الخلل، وتحسين العلاقات بين العالمين العربى والإسلامى، فقام فى 4 يونيو 2009 بزيارة لمصر ــ تاريخ له دلالاته أيضًا ــ وكما سبق الإشارة بأن رؤساء الدول الكبيرة لا يختارون وقت ومكان اللقاءات المهمة اعتباطيًا، فالدول العربية وقرار 242 للأمم المتحدة يطالبان قوات الاحتلال الإسرائيلية بالعودة لحدودها التى كانت موجودة عليها فى هذا اليوم (4 يونيو) قبل عدوانها فى 5 يونيو1967، كما أن اختيار جامعة القاهرة بالمشاركة مع جامعة الأزهر مكانًا لإلقاء خطابه إشارة قاطعة على أهمية الجامعتين أو القلعتين فى العالمين العربى والإسلامى وفى منطقة الشرق الأوسط المشتعلة بالحروب.
كان الهدف الأساسى من خطاب أوباما إلقاء خطاب تصالحى مع العالمين العربى والإسلامي، كان هذا وعدًا انتخابيًا منه أثناء حملته الانتخابية الأولى، وكان هذا واضحًا فى قوله: »لقد أتيت إلى هنا للبحث عن «بداية جديدة» بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامى استنادا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وهى بداية مبنية على أساس حقيقة أن أمريكا والإسلام لا تعارضان بعضها البعض، ولا داعى أبدا للتنافس فيما بينهما، بل إن لهما قواسم ومبادئ مشتركة يلتقيان عبرها ألا وهى مبادئ العدالة والتقدم والتسامح وكرامة كل إنسان». فكانت إشارات أوباما باختيار منبر جامعة القاهرة وبالاتفاق مع جامعة الأزهر مكانًا لإلقاء خطابه موفقة، وكذلك بتسمية خطبته «بداية جديدة».
افتتح أوباما خطابه بتحية الإسلام «السلام عليكم» التى نطقها باللغة العربية، كما أشار إلى تجاربه الشخصية مع الإسلام، بما فى ذلك وجود أفراد مسلمين من عائلته، ونشأته فى إندونيسيا، واقتبس من القرآن الكريم قوله تعالى: «اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا» (الأحزاب:70)؛ وتعتبر خطبته من أشهر الخطب لرئيس أمريكى تطرق فيها لفضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الأمريكية، داعيا إلى تحسين التفاهم المتبادل والعلاقات بين العالمين الإسلامى والغرب، وأكد فيها أنه ينبغى بذل المزيد من الجهود لمواجهة التطرف، ودعم الديمقراطية والحرية الدينية وحقوق المرأة والتنمية الاقتصادية فى كل أرجاء المعمورة، ولم يفوته التأكيد على تحالف أمريكا مع إسرائيل، واصفًا الرابطة بينهما بأنها «لا تنفصم»، ولكنه وصف أيضًا «انعدام الجنسية الفلسطينية» بأنه «لا يُطاق»، معترفًا بأن تطلعاتهم إلى الدولة والكرامة مشروعة تمامًا كرغبة إسرائيل فى وطن يهودى.
هكذا يتضح لنا أهمية السيميائيات أو الإشارات فى عُنصرى الزمان والمكان بالنسبة لزياراتى باراك أوباما وإيمانويل ماكرون، فقد تم اختيارهما بعناية كبيرة، ليس فيهما اعتباطية أو مصادفة غير محسوبة، بل فيهما دلالات قوية دون التصريح بما يتضمنه هذان العنصران، وحتى لا تُسبب إحراجًا لأحد، هكذا يكون الخطاب المكنى أبلغ كثيرًا من الخطاب الصريح!

 

أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) ــ جامعة الأزهر

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات