فى حالات الضعف والإحساس بالهزيمة، تسود ثقافة التشدد الدينى على مر التاريخ البشرى كل المجتمعات فى الشرق والغرب؛ وفى عصرنا الحالى، بدأت هذه الثقافة فى العالم الإسلامى بعد سقوط الدولة العثمانية، فظهرت الجماعات الدينية التى يقودها «هُواة» أو «مدعون للعلم» لم يدرسوا العلوم الدينية من منابعها، ولا فى مدارسها المعتمدة والمعروفة، وعلى رأسها جامعة الأزهر ومعاهدها، ولكى تُنفِّر هذه الجماعات المتطرفة الناس من أهل العلم راحوا يُروجون الإشاعات المغرضة التى تُسىء للعلماء وللمؤسسات الدينية المعتبرة، فأطلقوا عليهم أنهم أتباع «السلطة»، ولم يكتفوا بالإساءة إليهم ولكن قاموا بقتلهم، ولعل أكبر شاهد على ذلك اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبى، وزير الأوقاف الأسبق.
كانت وما زالت حُجة هذه الجماعات المتطرفة لنهجها أسلوب العُنف أن علماء الدين التابعين للمؤسسات الدينية المعترف بها لا يلتزمون بشريعة الله، وأنهم يقولون ما تريده السلطة، ولعل أكبر دليل على ذلك ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ أنهم ما زالوا يُحرمون التعاملات البنكية بكل أنواعها، ويعتبرون البنوك مؤسسات ربوية، وهذا ما يُنكره الفقهاء الذين يرون أن الربا عُنصره الأساسى هو «استغلال» حاجة الناس، كما أن الربا أنواع وأشكال مختلفة مثل «ربا النسيئة» وربا الفضل..، وقد كتبنا مقالًا يُبين الفروق بين هذه الأنواع بعنوان: «فتاوى تحريم فوائد البنوك بدون دلائل قطعية» (12/4/2022 جريدة الشروق).
هذا مع العلم بأن العلاقة بين المواطن وبين الدولة ومؤسساتها ــ بما فيها البنوك ــ هى علاقة بين الأصل والفرع، فالدولة (الأصل) مُكلفة برعاية مواطنيها (الفرع)، وسد احتياجاتهم وتنظيم شئونهم فى الصحة والتعليم والسكن..، وتحقيق النظام العام والأمن، وتوفير جزء كبير من الوظائف، وفى المقابل تتلقى الدولة الضرائب من المواطنين لتحقيق كل ذلك، وتمثل البنوك إحدى الوسائل التى تُعين الدولة على البناء والتعمير وتنفيذ المشاريع، وعلى إعانة المواطنين فى حالة وجود تضخم يُرهق المجتمع اقتصاديًا.
• • •
وفى الوقت الحالى، نسمع حديثًا لبعض النساء ــ يستجيب له للأسف الشديد الفقهاء والعلماء ــ تستفسرن عن إجازة تناول أدوية لتأجيل الدورة الشهرية حتى تتمكن من صيام شهر رمضان بأكمله، فهذا الطلب يعكس ــ من وجهة نظرنا ــ شعورهن بأن الدورة الشهرية شىء يُنقص من إيمانهن أو تقواهن، فيبحثن بالتالى عن علاج لهذا النقص، علمًا بأن هذه الدورة شىء بيلوجى طبيعى من صنع الله، فيه حكمة من عنده، وتأخيره نوع من العبث أو الاعتراض على مقاديره سبحانه وتعالى، فمن المؤكد أن مثل هذا التدخل البشرى فى فطرة الله سيسبب ضررًا بصحة المرأة البيولوجية والنفسية، لأن الدورة الشهرية بكل بساطة هى عملية خروج دم فاسد من جسمها، كما أنهن لا يعرفن أن هذا المنطق باطل وفاسد، لأنه لا يمكن تطبيقه على المرأة النفساء، فضلًا عن أننا لا نستطيع تطبيقه على الصلاة وهى ركن من أركان الإسلام مثل الصيام، فهل سنبحث مستقبلًا عن دواء يمنع الدورة الشهرية للأبد حتى تتمكن النساء من إقامة الصلاة دون إنقطاع طوال حياتها مثل الرجل؟!
إن هذا، من وجهة نظرنا، ما نسميه بـ«الهوس الدينى»، ولهذا يجب على علماء الأزهر الشريف أن ينهروا مثل هذه الدعوات، ولا يجيزونها تحت أى شرط، فهذا التفكير يُعد تخريب فى فطرة الله، يُخل بتوازن الحياة مثل الذين خرَّبوا الطبيعة النقية فأضروا بالبيئة وبالمناخ، وأفسدوا علينا نقاء الطبيعة وتوازنها، هكذا يغرس هؤلاء المتطرفون فى الفكر وفى الدين تفكيرهم الضال فى اللاوعى لدى المرأة بأنها «ناقصة»، وبالتالى يجب عليها أن تبحث عن علاج لنفى هذا النقص، بينما الله سبحانه ساوى بين الرجل والمرأة، وجعلهما متكاملين، فكلاهما لا يستطيع أن يُقيم حياته دون الآخر، فهما على قدم المساواة كما فى قوله تعالى: «إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا» (الأحزاب 35:36)!.
• • •
نرى أن خطاب مُدّعى العلم يعتمد فى جوهره على «التخويف» و«التعذيب» و«الترهيب» دون «الترغيب» فى رحمة الله وعفوه الذى يسبق كل شىء، فعذاب القبر وما فيه كالثعبان الأقرع وغيره تعتبر المفاهيم الرئيسية والكلمات الإفتتاحية فى خطابهم الترويعى، وإذا تحدث أحد عن مغفرة الله ورحمته التى وسعت كل شىء يُهاجمونه وينتقدونه، فقد صرح الشيخ الدكتور على جمعة، مفتى الديار المصرية الأسبق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، فى إحدى القنوات الفضائية، أنه من «الوارد أن الله يلغى النار فى الآخرة»، فقامت الدنيا عليه ولم تقعد، وكأنهم يستكثرون على الله سعة رحمته، ولا يرونه إلا مُعذبًا!.
اضطر فضيلته تفسير تصريحه السابق بقوله أن «هذا رأى أهل السنة والجماعة؛ وليس رأيًا جديدًا، بل هو ما يُدرَّس فى مذهب أهل السنة عبر العصور، فالله سبحانه وتعالى لا يُخلف وعده؛ ولكن قد يُخفف وعيده»، وأضاف أن «قضية النار قد تفنى أو تُلغى أو أن الله يفعل ما يشاء بتجلى رحمته؛ هو مذهب أهل السنة، وقد أورده ابن القيم، وكان ذلك مذهب ابن تيمية رحمهم الله»، كما أكد أن «هذا الرأى ليس جديدًا ولا حديثا توصلنا إليه، بل هو كلام الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين عبر القرون، فالله تعالى لا يخلف وعده أبدًا؛ ولكنه فى الوعيد ومن رحمته قد يتخلف هذا الوعيد».
• • •
ونحن نرى أن ما بين «الوعد والوعيد»، وبتعبير آخر، ما بين «الترهيب والترغيب» مدرسة تربوية كبيرة، تعمل على إصلاح العباد، وليس التنكيل بهم كما يفهم المتنطعون، إنهم لا يدركون إلا الوعيد والترهيب، فهم أصحاب أفق محدود، هكذا يكون فكر أهل العنف ليبرروا أعمالهم الإرهابية، فالله لا يعرف الانتقام الذى يسيطر على عقولهم وحياتهم، ولا يعد بالعذاب الذى يُنكل به الإنسان، إنه رءوف رحيم بعباده!
وتؤكد مفاهيم ومعانى القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة هذا التوجه.
نذكر من قوله تعالى: «مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا (23) لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا» (الأحزاب: 24).
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطِف الوحش على ولدها، وأخَّر الله تسعا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة» (مسلم / 6908).
وفى حديث آخر يحمل نفس المعنى فى صحيح البخارى، رواه أبو هريرة، يقول النبى الكريم: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَومَ خَلَقَها مِائَةَ رَحْمَةٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً، وأَرْسَلَ فى خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً واحِدَةً، فلوْ يَعْلَمُ الكافِرُ بكُلِّ الذى عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الجَنَّةِ، ولو يَعْلَمُ المُؤْمِنُ بكُلِّ الذى عِنْدَ اللَّهِ مِنَ العَذابِ، لَمْ يَأْمَن مِنَ النَّار»، فالجنة والنار ــ إذن ــ شأن إلهى لا دخل للعباد فيها!
هكذا يكون الوعد والوعيد من الله سبحانه وتعالى، ومن نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهكذا يكون أسلوب توجيه الإنسان ليكون صالحًا لنفسه ولمجتمعه، فشتان بين هذا الحديث وبين حديث يُلقى الرعب فى نفوس الناس وينفرها من الدين كحديث الكنيسة فى القرون الوسطى الذى دفع الناس للإحاد ولهجر بيوت الله!
إن ما لقاه فضيلة الشيخ على جمعة (المفتى الأسبق) من هجوم عنيف عن حديثه بإمكانية «إلغاء النار فى الآخرة» ليس بغريب، لأنه جاء ليواجه ثقافة مجتمع امتلأت قلوب أفراده للأسف الشديد بالخوف والرعب، واستقرت فى قناعاته مفاهيم مغلوطة عن الدين بسبب عقول مُنظريه من الدُعاة الجدد الذين يتميَّزون بالجهل وضيق الأفق، وسوء الظن بالله، فالشيخ أراد أن يُصحح هذه الثقافة، ويُقنع المسلم بأن يعبد ربه عن حب وشغف، وليس عن ارتجاف وخوف واضطراب، لا سيما وأن هذا هو أصل الدين!
أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر.