دواء وعلل - علاء غنام - بوابة الشروق
الثلاثاء 17 يونيو 2025 1:40 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما توقعاتك لمعارك إسرائيل مع إيران؟

دواء وعلل

نشر فى : الإثنين 16 يونيو 2025 - 8:00 م | آخر تحديث : الإثنين 16 يونيو 2025 - 8:00 م

الحق فى الدواء هو مكون أساسى فى الخدمة الصحية وإتاحة الأدوية الأساسية والمنقذة للحياة معيار جوهرى فى جودة الخدمة الصحية وشمولها وعدالتها. لمصر تاريخ قديم فى صناعة الدواء بدءًا من عام 1939 حسب التطور العالمى لهذه الصناعة فى ذلك الوقت.

قبل عامين من رحيل صاحبة الكتاب الذى أتعرض له فى هذا المقال (د. ناهد يوسف) إحدى رائدات صناعة الدواء فى مصر فى لحظات النهوض القومى فى الستينيات من القرن الماضى، حيث تعرفت عليها فأهدت لى كتابها المهم الذى يعد مزيج محكم من الذكريات الشخصية، والسياقات التاريخية الموضوعية عن قصة صناعة الدواء فى مصر فى موجتها الثانية (1960) بعد أعوام النشأة الأولى فى 1939.

 كانت ناهد يوسف صيدلية نابغة تخرجت فى عام 1956 (عام العدوان الثلاثى على مصر) من بين 18 طالبة كنّ فى دفعتها فى هذا العام الفارق من تاريخنا الحديث.

عندما تخرجت بتفوق كان أمامها طريقان الأول أن تعمل أو تفتح صيدلية تمارس فيها تخصصها بجانبه التجارى أو أن تتجه إلى مجال أكثر عمقا فى المنظومة الدوائية وهو البحث العلمى وتصنيع الدواء على المستوى الوطنى وفضلت الاتجاه الأعمق والأكثر تحدى فى لحظات مهمة من تاريخنا، وهو اندحار العدوان وبدء التحول الثورى والاقتصادى فى ذلك الوقت وفق شروط محاولة التخلص من الاستعمار والتبعية.

عملت فى مصنع للدواء صغير بشبرا لشركة كان يمتلكها أجنبى تسمى (إيكاديل) رحل صاحبها بعد تأميمها مع موجة تأميم الاقتصاد الأولى فوجدت نفسها وهى فى الثالثة والعشرين من عمرها مسئولة عن هذا المصنع الصغير، وكانت تلك لحظة البداية الفارقة فى محاولة تأسيس صناعة دواء وطنية مستقرة وقوية فى مواجهة الاحتكارات العالمية لتلك الصناعة الاستراتيجية التى لا تقل أهمية عن صناعة السلاح سواء فى تأثيرها الحيوى لاستقلال الأمم أو فى حياة، وصحة البشر فيها.

• • •

فى مدخل الكتاب سطرت لى هذا الإهداء لروحها السلام (د. علاء غنام) أهديك قصتى مع صناعة الأدوية من الازدهار إلى الأزمة مع أطيب تمنياتى بالصحة والتوفيق فى كل جهودك الدائمة لتقديم الخدمات الصحية لكل المحتاجين ناهد يوسف 15/02/2018.

وفى الكتاب ترصد البداية أو الازدهار كالآتى:

كيف ومتى على وجه الدقة بدأت قصتى مع صناعة الأدوية لكن - وقد بلغت الثمانين من عمرى - أتذكر رحلة اشتركت فيها مع زملائى بمدرسة شبرا الابتدائية إلى مصانع ياسين للزجاج بشبرا الخيمة منذ تلك اللحظة انطبع فى أعماق ذاكرتى كيف يشكل العمال المهرة الزجاج المنصهر على زجاجات، وأكواب، ولمبات جاهزة، ومشكاوات تضىء المساجد والبيوت وتحف فنية زجاجية رائعة، كما بدأ وترسخ فى أعماقى شعور بالحب والاحترام تجاه العمل المنتج الذى يخدم الناس - كل الناس فى شتى مجالات حياتهم اليومية.

كان لى الحظ أن درست على يد الدكتور محمد الشحات أستاذ الكيمياء، وهو صيدلى نابغُ قام بالدور الأساسى فى اجراء البحث الأهم على دراسة أحوال قطاع الدواء فى مصر فى ذلك العصر وكيف كان يسيطر عليه حفنة من وكلاء الشركات الأجنبية من الأجانب واليهود المصريين بدأ من الاستيراد مرورًا بالتخزين وانتهاء بالتوزيع، وقد شمل البحث تصورًا شاملًا عن الإجراءات التنفيذية التى تمكن الحكومة المصرية من بسط سيطرتها على هذا النشاط الحيوى وذلك لتحقيق التنمية المستقلة لصناعة الدواء فى مصر.

تواصل د. ناهد فى كتابها ما هو محمل بالدروس والدلالات مرت سنوات الجامعة الجامحة وحصلت على بكالوريوس الصيدلية والكيمياء فى يونيو 1956، وبعد أن أقسمت قسم أبقراط فى مشهد مؤثر التحقت بالتمرين فى الصيف بإحدى الصيدليات فى حى بولاق بالقرب من مساكن يسكنها فقراء العربجية المصابون بجميع أمراض سوء التغذية، وكانوا يلجأون إلى الصيدلية لتشخيص الأمراض، وتحديد الدواء وتحضيره وبيعه لهم.

كان الصيدلى ينصحهم بتناول تركيبه من الحديد والاستريكنين التى تعالج الأنيميا، وتعطى إحساسًا بالقوة. كانت تكلفة الزجاجة من هذا الدواء لا تتجاوز 3 قروش، بينما يبيعها بـ30 قرش يدفعهم البائس من هؤلاء البشر من تجميع الملاليم والقروش وفى حالات كثيرة لم يكن يستطيع أن يكمل الثمن فأحاول مساعدته.

كانت عدة أشهر كافية تمامًا لأن أتخذ قرارًا بأن لا أعمل أبدًا فى أى صيدلية فضلًا عن امتلاك صيدلية رغم السهولة والمكاسب الوفيرة التى تجنيها من ذلك.

هكذا تواصل الرصد وبشغف وأقول أن هذا الكتاب الذى أنصح بقراءته للخروج من أزمتنا الدوائية الحالية الوضع مشابه الآن كثيرًا لما وصفته الدكتورة ناهد فى هذا الوقت.

 • • •

فهذا الكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية بل هو سيرة بناء وتطور صناعة الدواء فى مصر ثم انهيارها بعد ذلك والتى تعد جزءًا من سيرة بناء وقصة تطور الصناعة خاصة القطاع العام الصناعى، لكنها فى الوقت نفسه ليست سيرة موضوعية فقط، لأن صاحبتها هى واحدة فى رسم وتنفيذ هذه السياسات الوطنية، وهكذا رصدت القصة بمراحلها الثلاث البناء والتقزيم وأخيرًا الانهيار.

فى كل مرحلة يحفل تاريخ صناعة الدواء وتحدياتها بأبطال مغمورين وبطلات مغمورات لا نعرف عنهم شيئًا، فالتصنيع فى بلد نامٍ هو معركة مستمرة بعيدة كل البعد عن السلاسة، مواجهات سياسية دائمة لا تنجح إلا بمحصلة من أرادة سياسية قوية مستقلة وتخطيط على جميع المستويات من أعلى مستويات القيادة السياسية نزولا إلى الوحدات الصغيرة أى الشركة ثم المصنع، كما يلعب تراكم الخبرات والبحث والتطوير دورا بالغ الأهمية ولأنها كانت طرفا فاعلا فى حقبة مهمة من هذه المعركة، ولأن صناعة الدواء خصوصًا فيما نعانيه الآن من أزمة وارتفاع أسعار الأدوية الأساسية تقع فى القلب من هذه المعركة فهى صناعة استراتيجية وتقع لذلك فى القلب أيضًا مع صناعات مرتبطة بالغذاء وأساسيات الحياة الآخرى، وذلك لتقليص فجوة الفقر والعدالة الاجتماعية وتوفير الخدمات الصحية المنقذة للحياة.

لأنها كذلك كانت وما زالت تواجه بكم من العراقيل من قبل شركات الدواء العال واحتكاراتها، وهى شركات معدودة من أوروبا ومن الولايات المتحدة الأمريكية تحظى بدعم حكومى كبير من بلدانها وتمد فروعها إلى كل دول العالم كى تنشر منتجاتها وتمنع الشركات المحلية من أن تكبر، وتعتمد على أدواتها من أجل ذلك تضغط تلك الشركات من خلال دولها الكبرى لتغير القوانين الدولية لصالحها ( مثل حق الملكية الفكرية وما شابه) كى توفر لها الحماية من المنافسة كما حدث فى إنتاج اللقاحات أثناء أزمة كوفيد 19 أو فى إنتاج السوفلدى لعلاج مرض فيروس C ويقيد الآخرين من حرية تطوير المنتجات المخترعة حديثًا أو صناعة المادة الخام اللازمة للدواء، وتعتمد فروعها فى الدول النامية كى تضمن تقزيم الشركات المحلية أو تثبيط محاولات البحث والتطوير المحلية وتضمن التسعير الذى يسمح لها بأعلى مكان فى المنافسة، بحيث يستطيع إرهاق الشركات المحلية ماليًا، وتحويل أرباحها إلى الشركة الأم معفاة من الضرائب بل فى كثير من الأحيان قد تلجأ إلى حيل غير قانونية حتى تهيمن على السوق.

• • •

نحن الآن كما تقول المؤلفة والمناضلة ناهد يوسف لروحها السلام فى نفس التحدى وذروة الأزمة، وفى التاريخ الحديث علينا أن نتعلم الدرس الذى تفصله الكاتبة فى كتابها المهم أدوية وعلل كما فعلت الهند والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا فى مواجهة هذه الاحتكارات العالمية الجشعة كى نحمى حياة مواطنينا البسطاء، ونكفل لهم الحق فى الصحة والدواء والعلاج، وهذا بالتحديد ما يكسب هذا الكتاب الصادر فى 2017 قبل رحيل ناهد يوسف بقليل وهى فى عمر الثمانين أهمية كبرى لدارسة ما فيه والاستفادة من خبراتها والدروس التى شرحتها فى معركة توطين وصناعة دواء وطنى جيد كان فى الستينيات حين كانت التجربة الأولى الناجحة تغطى 85% من احتياجات الشعب الدوائية بأسعار فى المتناول لا تحرمهم من فرص مواجهة المرض والشفاء، فتحية لروحها، ولنضالها فى هذا الزمان الذى اتسم بالشجاعة والقدرة على المواجهة.

 

علاء غنام مسئول الحق فى الصحة فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وخبير فى إصلاح القطاع الصحى
التعليقات